Quantcast
Channel: الرواية نت
Viewing all 1074 articles
Browse latest View live

عرج الجوى

$
0
0

تسلط رواية “عرج الجوى” للسوري آرام كرابيت الضوء على الرضات النفسية والشروج العميقة التي يتعرض لها الطفل العربي في طفولته. تمارس المدرسة كجزء من مؤسسات الدولة وصايتها عليه وتدمره من الداخل. فالطفل يسير في الحياة وفق إرادة الأخرين وثقافتهم دون النظر إلى تكوينه النفسي وحيويته وعقله.

الرواية تأخذنا إلى عالم الإنسان العربي وكيف ينمو ويكبر في ظل الانكسارات المتعددة.

الأهل والمدرسة رسموا خرائط مستقبله وبنوا حساباتهم فوق جسده ووجوده، ووفق القوانين والمؤسسات التي تلجم ارتقاء الطفل ونهوضه وتطور حياته وعقله ونفسيته. إنهما مدمران له ممزقان لآلية تفكيره.

إن النكوص والتمزق الداخلي الذي يعانيه الصغير ليس في حسبان الأهل. إنهم يريدون منه دون أن يسألوه ماذا يريد من نفسه.

الطفل الذي في أيدينا، في الرواية موهوب ومملوء بالحيوية والنشاط، يتمنى الكثير، بيد أن الواقع مقيد ويقيده، يقول النص:

فتح الطفل ديكران الصندوقَ وأخرج آلتَه، الأوكرديون، ووضعها على صدره وربطها خلف ظهره وبدأ يتمرّن عليها بتحريكِ مفاتيحها بأصابعه الجميلة المرنة.

بعد نصف ساعة جاءت نورما، بيدها آلةُ الكمان, جميلةٌ كفرجة ربانية، كآيةٍ في الجمال، كجمال الزهور في الربيع, عليها تنّورةٌ قصيرةٌ صفراءُ اللون, وقميصٌ أحمرُ, وحذاءٌ أبيضُ, وجواربُ بيضاءُ. اعتذرت عن التأخير بأدبٍ جمّ.
تشاورتِ المعلمة مع نورما وديكران على ماذا سيقدمان.

اقترب والد آفو منه وهمس في أذنه:

ـ ما رأيك بما يحدث؟

ـ إنهما ملائكةٌ هذا الديكران ونورما, شيء مثل الغسق، مثل ذوبان الشمس في ثنايا الأفق عندما ينشر اللون البرتقالي الفاتح حول انحناء الكون.

نحن أشبه بالسعادين المندهشة يا والدي، انظر إلى عيوننا المسمّرة على أطفال لا يشبهوننا في أيّ شيء, إنّهم جميلون وأنيقون وموهوبون, كنت اشتهي أن أكون هما أنا, بصراحة، أنا متماهٍ بهما إلى حدّ الذوبان.

لقد فسح المجال لبعض الأطفال أن يطوروا قدراتهم لأنهم من منبت مميز اجتماعيًا وثقافيًا، بينما آفو، بطلنا المكسور من الداخل يتمزق داخليًا لعدم قدرة الأهل على تأمين حاجاته ليكون هو كما يريد.

جاء في عرض الرواية:

في نهاية السنة استلم آفو الجلاء وقرأ في نهاية الصفحة كلمة راسب، بينما بقية التلاميذ نجحوا، شاهد كيف كانوا يضحكون ويرقصون ويتبادلون التهنئة، ويمشون معًا بسعادة وفرح. يشترون لبعضهم الراحة والبسكويت والشوكولا، أو يتبادلون مع بعضهم الهدايا الصغيرة، وارتدى أغلبهم أجمل الثياب والأحذية الصيفية الجديدة استعدادًا لهذه المناسبة الجميلة.

والكثير من الأمهات أو الأباء جاؤوا مع أولادهم لحضور نجاح أطفالهم وتهنئتهم. وقسم آخر أخذ الجلاء ومضى يلوح به في الهواء وينطنط بسعادة وهو في طريقه مع والديه إلى الكنيسة لحضور القداس للصلاة، وإشعال الشموع والشكر لله.

The post عرج الجوى appeared first on الرواية نت.


فصل من رواية “مُتلازمة بروين”

$
0
0

الفصل الأول

كأنهُ أول الصباح، كأن الشمس اشرقت للتو، طقسٌ مُعتدل، جو صاف وشمس بأشعةٍ دافئة، سماءً تتخللها سُحب تسير ببطء امام عيني، أنظر إليها دون حِراك، الجو هادئ وجميل، ولكن هناك سكون رهيب على مسامعي، من حولي هدوء تام، هدوء يثير الشك … لمَ هذا السكون؟ اين أنا؟

أجدُ نفسي مُستلقياً على ظهري، على ارضٍ رطبة بعض الشيء، ولكن لا شيء حولي؟ لمَ لا التفت؟ ما السبب؟ لا اعلم، كأنني سقطتُ من مكانٍ شاهق، يخفقُ قلبي مُسرعاً ولكنني لا اشعر بنبضاتهِ، اشعر بأن هناك رهبةً تمتلكني، اشعر بخوفٍ من أن اُحرك جسدي، اخاف لئلا أهوى مرة اخرى، لا اقدر على الحِراك من شدة الرهبة، لمَ لا اتنفس؟ ساكنٌ لدرجة انني لا اشعر بأنفاسي، مُستلقي على أرض غريبة، لا اعلم اين انا؟ لمَ انا هادئ؟ لمَ انا وحدي؟ لمَ لا اشعر بأنفاسي، لا ارى صدري يرتفع وينخفض، حركتُ رأسي الى الأسفل قليلاً ونظرتُ إليه فوجدتهُ ساكن، انا لا اتنفس!

بدأتُ أحرك عيني يميناً ويساراً، الى الاعلى والى الأسفل، أبحث عمن يجيبني، هل مر وقت كثير على بقائي هنا؟ لمَ انا هنا؟ تأملتُ النظر في السماء، تركتُ كل الظنون التي تساورني، سألتُ ذاكرتي عن ذكرياتي، هُنالك ثمة شيء يجعل الذكريات تتراكم أمام عيني، وكأنني اضغطُ بيدي على جانبيّ رأسي لأستجمعها، تراءت لي أهم الاحداث التي مرت في حياتي، أجمل اللحظات وأهمها، ساورتني تلك المخاوف التي كانت تلاحقني على الدوام، تذكرت كل شيء قضيت حياتي وأنا أجمع عنهُ الأدلة، انتابني ذات الشك الذي كنت أهرب منه، تذكرتُ مدرستي، امي وابي، اخوتي حين كُنا صغاراً، تذكرت كل شيء لا يقبلُ النسيان.

انا في فضاءٍ واسع، في مكانٍ لا يشبه الأرض، الوانهُ صافية، سماؤه ناصعة البياض، أنا خائف، خائف بذلك الخوف الذي رافقني طويلاً، خائف من ذلك الامتحان الذي خُلقِنا لأجله، لطالما كنتُ أؤمن بأن الرب خَلقَ عِباده ليمتحنهم كُلاً بحسب زمانهِ ومكانه، بحسب ما تحيطهُ من معطيات عاش بموجبها، هذه المعطيات ما هي إلا حلقات صغيرة تحيطها اخرى كبيرة ثم حلقات اكبرُ حجماً، حلقات تزداد اقطارُها اتساعاً كلما تركنا احداها واتجهنا الى الأخرى.

(الذات) هي الحلقة الأولى، بما تحملهُ من افكارٍ استلهَمَتَها من عقلنا الباطن، منذ ان بدأنا التساؤل عن اسم كل شيء من حولنا والى ان بلغنا الرُشد، الى أن اكتسبنا العقل الناضج الصالح للتفكير والتفكر، ثم الحلقة الاكبر منها وهي (الاسرة)، هي التي عشنا وسطها بما فيها من صالحين وغير صالحين، ثم الحلقة الاكبر وهي (البيئة) التي نشأنا فيها وكل ما اكتسبناه منها رغماً عن ارادتنا، ثم حلقة (المُجتمع) بكل عاداتهِ وتقاليدهِ وقيمهِ، ثم حلقة (الحياة) بكل شيءٍ احتوته، قَيماً كان ام غير قَيم، في كل الايام التي قضيناها فيها أما تلبيةً لشهوة أو طلباً لعِلم، للتمرس في الجهل أو للبحث عن الحقيقة، لبناء مستقبلٍ عظيم أو لاستخراج امثلةً من الماضي بُغية الاستدلال عن المستقبل.

خائفٌ من تلك الحياة التي مُنحت لنا لكي نكون، ونحن لا نعلم ماذا سنكون، نعمل ولا نعلم، جميعنُا لا يعلم حين يعمل بأن ما يسير عليه هل هو (الصراط المستقيم) ام (طريق السعير)، تؤجل معرفة الحقائق الى يوم الحساب، مهما كانت مساراتُنا في الحياة مُتقاطعةً لبعضها أو مُتوازية، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[1] نحن لن نعلم ما عملنا إلا بعد أنتهاء مُدة الامتحان المُقرر لأن نعيشه.

اتأمل سماءً شكلها مُريب، حركة غيومها سريعة، وكأني أوقدتُ ناراً ثُم أحترق بها، حائرٌاً في إجابةٍ لسؤال ليس لهُ إجابة، من أين وكيف كانت البداية؟ كيف تكونت الارض؟ كيف جاء أول البشر؟ من هو أول الخلق؟ ما هي حقيقة الاديان؟ لمَ كل البشر ليسوا على دينٍ واحد؟ أليس الخالق واحد وغايته من الخلق واحدة؟ أليس ما يريدهُ من خلقهِ هو عبادتهِ، لمَ هنالك أكثر من طريقةٍ لعبادتهِ؟ لمَ هُناك أكثر من طريقةٍ لعبادتهِ في الدين الواحد؟ لمَ هناك أكثر من دين؟ لمَ هُناك اختلاف بين الأديان وتحريض على القتل بينهم؟ أليس مُرسل الأديان واحدا؟

يَعقدُ التاريخ لسانه لو سُئِل عن آلهة ما، كلما قرأته، يضعني تاريخ البشرية والأقوام القديمة في حيرة من أمري، لمَ الآلهة تتجدد؟ لمَ الانسان بطبعه الفطري يبحث عن إلهٍ يلتجئ إليه ليمنحهُ الأمان ولينتشل منهُ الخوف؟ لمَ طقوس دينه تكون في الغالب وفق الظروف التي يعيش فيها؟ وكأن الآلهة تكونت بحسب ما يُريد وما يشتهي، أليس من المفروض ان تكون الآلهة موجودة بذاتها؟ أليس من المفروض ان تكون الأديان وفيرة المُعجزات؟ أليس من المفروض ان يكون الإله واحدا؟

التاريخ خيرُ دليل يُزيد أسئلتي إبهاماً، وقتما كان من الاجدر بهِ أن يكون الفيصل، تاريخُنا كُلما بحثنا فيه غِصنا في عتمةِ بحر التساؤلات أكثر، لتزداد العتمة أكثر، ويتفاقم التساؤل، حتى نكاد نصل لأمورٍ تُزيد من غرابة اسئلتنا غرابة، لتكون في نهاية المطاف ليست أسئلة فحسب، تصبح مُعضلة، نتمنى حينها آسفين لأن نعود لنقطة البداية، لتلك الدقيقة التي مسكنا فيها أول كتاب يبحث ويُنقب في ماضينا، يبحثُ في أصل تكوين كُل شيء من حولنا، نتمنى لو اننا لم نقرأ، يا ليتنا بقينا على ما اكتسبناه من معلومات تضمُر الخرافات في جوفِها لتلك الإجابات التي سمِعناها من ابوينا أو من معلمينا في المدرسة أو من أسيادنا في الدين، نتحسر لأننا خرجنا من تحت سطوة عباءتهم في دور العبادة، ركضنا الى النور بعد أن سمعناهُم يقولوا بأن “العلم نور” خِيّل لنا بأن العلم نور فركضنا باتجاهه، وما أن وصلنا إليه أحرقنا بنارِ الخوف لما احتواه من حقائق، لظّى الإمساك بها أشدُ من الإمساك بالجمر، هو ذات الخوف الذي انا على قيدهِ الان، الخوف من ذلك الامتحان الذي خُلِقنا من اجله، كيف سنُجيب ونحن من كُثر ما بحثنا، لم نعُد نمتلك الإجابة.

رُغم الظلام الغادق من حولي ورغم رياح الجهل التي تزأر خارجاً، دعاني حُب البحث يوماً ما لفتح نوافذهِ، اقنعتُ نفسي بأني بحاجةٍ لبعض النور المُنعش لرئتيّ اسئلتي، قرأتُ تاريخ الحضارات القديمة، قرأتُ عن الإغريق والبابليين والحضارة الصينية القديمة والفراعنة وغيرهم، لاحظتُهم قد وجدوا عشرات أو مئات الآلهة لكي يعبدونها، وقتما شاءوا وكيفما شاءوا، لاحظتُ من خلال آثارهم بأن هُنالك آلهة للحب وآلهة للحرب وللزواج والسفر والصيد، لاحظتُ أن لكل آلهة قصتها واثرها التاريخي الذي تداولهُ الناس آنذاك، تكرر تداولها أجيالاً بعد أجيال حتى تم تصديقها والإيمان بها، حتى اننا حين نطلع على قصص هذه الآلهة ولِمَ كانت بهذه الصورة، نجد حِبكةً من الاحداث تصبُ في النهاية لحِكمةٍ تجعل العقل والقلب يؤمِن بها دون تردد، يخطر ببالِنا كيف كانوا يسردونها لصغارهم لكي يتربوا على قِيمِها، هذه القُصص لو انها وردت بكتبِ ادياننا اليوم لصدقناها ايضاً، فليسَ هنالك طريقة تجعل العقل يوقف الشك في أي قصة يسمعها سوى ربط مصدرها بكتبٍ يُدّعى بأنها سماوية.

بين لحظة ضعف ولحظة قوة، ألثغ بأحرفٍ ليست من لُغتي حين أفصح عن ديني الذي أؤمن به، فأغلب اقراني في الدين حين يطلّعون على تاريخ هذه الاقوام القديمة ويتعرفون على أنواع وأعداد الآلهة التي كانوا يعبدونها وكيف كانوا يعبدونها يرددون عبارة “الحمد لله على نعمة الإسلام” دون أن يتساءل أحدهم عن ماهية دينهِ أو مذهبهِ على أقل تقدير، لم يتساءل أحدهم كيف جاء الدين وكيف وصل إلينا؟ عن طريق مَن؟ في أي سنة؟ من القائل؟ هل هو محل ثقة؟ كيف نجعله محل ثقة بعد هذا الكم الهائل من السنين التي تفصل بيننا وبينه؟ الإيمان بالأديان مسألةٌ غيبية، لا مناص للحياد عن ذلك اطلاقاً، الدين الإسلامي تحديداً ومن دون الأديان الابراهيمية لم يأتِ بمعجزة مادية ملموسة، اتأمل الدين (اليهودي) و(المسيحي) وقصص الأنبياء (موسى) و(عيسى) فأجد الكثير من المعجزات التي قدمها كل نبي لقومهِ لكي يؤمنوا به، والقرآن قد ذكر ذلك في آياتهِ عبر قصص الاولين، لمَ الدين الإسلامي لم يأتِ بمعجزةٍ يشهدُ لها العيان؟ تساؤل من المُستحيل أن أجد لهُ إجابة فهو من مشيئة الرب، للرب تقدير ذلك، أقول ذلك لأني لا أتمكن من قول غير ذلك، ولكي أبرهن لنفسي بأن الإيمان بالأديان من الغيبيات، وأنا في هذا المكان الغريب الهادئ ارى بأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي من الصعب جداً الإيمان به ومن السهل جداً نقض وجوده، وهذا التَوسّم لا يسري على من كسب الدين بالوراثة.

اتفكر وأنا مُلقى على ظهري تحت هذه السماء المُريبة في سرد مفردات الدين الإسلامي على شخص (لا ديني) بالغ عاقل، بلغ سن الرشد بعد أن نشأ في عائلة لا تعتنق أي ديانة، بماذا سأبُرهن وجود أو بَعثَ نبي ديني؟ كيف سأثبت لهُ بأنه دين سماوي دون أن اسرد لهُ مُعجزةً ماديةً مرئيةً جاء بها نبي ديني كي لا يُقارن بباقي البشر؟ لستُ من الديانة (اليهودية) التي يمتلك مُعتنقوها (9) بَراهين ومُعجزات أشار لها القُرآن[2] لوجود دينهم، فضلاً عن المُعجزات الواردة في (التوراة) بأسفار (العهد القديم) وتحديداً في (سفر الخروج)، كما أني لستُ من الديانة (المسيحية) ونبي ديني تكلم في المَهد ونفخ الروح في الطير ومسح الأكمه[3] فأعاد لهُ البصر ومسح على الأبرص وكَتب لهُ الشِفاء وكان قادراً على احياء الموتى، مُعجزات نص عليها القرآن[4] بالإضافة الى (37) مُعجزة أخرى نصت عليها الاناجيل الأربعة[5]، لنا نبيٌ لم يمتلك سوى آيات بينات حتى جاء (الفقه) و(علم الحَديث) فأذهب عنها بريقها، لنا دينٌ حائرون في نشأته، حائرون في أسباب نشأة طقوس عباداته، حائرون في وجه تشابه (17) موضع بين (سَفر الخروج) و(القرآن)[6]، دينُنا كما الأديان التي نُزلت من قبله، إلا أنهُ اعظمهم قسوة في بنود امتحانه، اشدهم غموضاً، أكثرهم وعيداً بالعذاب.

أزهرت آمال إيماني الغيبي فقطفتها ايادي الشك حين تساءلت لمَ هناك شبه بين قصة (الاسراء والمعراج) واسطورة (بيكاسوس Pegasus) الاغريقية، تساءلت عن عدد السنين التي سَبقَت ظهور هذه الأسطورة عن ظهور (المعراج) في الدين (الإسلام)، وأنا مُستلقٍ على هذه الارض الغريبة تُراودني فرحةٌ كتلك الفرحة التي راودتني من قبل وأنا ادخل القبو لأول مرة، كنتُ اشعر بأن هناك شيئاً ما سيحدث، شيئاً سيُغير مجرى حياتي، كنت اغوص نحو ضوء في أسفل قاع عَتمة شكي ويقيني.

قرأتُ ذات مرة وجه الشبه الذي يشوب تلك القصتين في مجموعة أوراق مُبعثرة في قبوٍ أسفل منزلنا الكبير، كنتُ ادخلهُ خِلسة دون علم ابي، منعنا من دخولهِ مراراً، تارةً يقول ان فيه افاعٍ كبيرة، وتارةً يقول بأنهُ لا يحتوي على شيءٍ يُثير الاهتمام سوى أثاثٍ قديم، كانت هذه الاوراق أول تجربة بحث لي، بدأتُ أبحث عن الحقيقة، هل قصة (المعراج) منسوخة من هذه الأسطورة؟ أم أن مَن رَفض اعتناق دين الإسلام وكَفرَ به ادعى وجودها ليقول عن القرآن بأنهُ من صنع البشر؟

بحثتُ في العديد من الكُتب في مكتبة أبي، وجدتُ في مُسند (احمد بن حنبل) تفصيلاً عّما حدث في ليلة (الاسراء والمعراج)، إلا أنني لم اعرهُ اهتماماً لما جاء في تلك الليلة عن (الاسراء)، بحثتُ عن (المعراج)، عن قدر تعلق الامر في اسطورة الحصان الابيض المُجنح، لمَ امتطى النبي حصاناً ليعرج الى السماء؟ ألمَ يُخلَق الحصان للجري! ما عِلاقة الحصان بالطيران؟ وقفتُ مُتكِئاً على نافذةٍ تطل على سماءٍ مُلبدةً بالغيوم، أمسكُ بيدي كتاباً لا ينفك أبي عن قراءته رفقة صحيح (مُسلم) ومُسند (احمد أبن حنبل)، بحثتُ في صحيح (بُخاري)، كان دائماً ما يقول لي بأن عليّ قراءة ما يتيسر لي منهم بعد قراءة القرآن، يقول لي دائماً بأنني سأجد فيهم كل الإجابات التي اريدها، ولكنني عجبتُ حين منعني عن السؤال في خارج ما تناولتهُ هذهِ الكُتب، لأنه من البُدع، وكل بدعة ضلالة، اوصاني بأن علينا الالتزام وفق ما ترويه فحسب، ان نعيش حياتنا وفق الاحداث التي ترويها، لأننا مُلتزمون بما جاء بهِ السلف الصالح ولا شيء غيره، وجدتُ وقتها وصفاً لحيوان (البُراق)، قيل عنه بأنهُ: “دابة دون البغل وفوق الحمار الابيض”[7] وجدتُ ايضاً في (مُسند احمد) ذات الكلام مع إضافة: “يضعُ حافرهُ عند منتهى طرفه”[8] ووجدتُ إجماع كل المؤرخين على قصة التقاء النبي بمن سبقه من الأنبياء في سبع سماوات تباعاً من السماء الأولى الى السماء السابعة، ليلتها جمعتُ الكتابين بالقرب مني وأنا اجلس القرفصاء مُنغمِساً بين كُتب القبو، شرعت لأن أبحث عن اسطورة (بيكاسوس) الاغريقية، وجدتُ مقالاً يسرد بالتفصيل كيف تكونت هذه الأسطورة، قرأتُها فأصبحتُ حائراً، أكرر ما قرأت في مخيلتي وانا أبحث عن المزيد من الأدلة لأنني لا أتمكن من دخول القبو في أي وقت اشاء، انتظر الليل لأدخل إليه خِلسةً بُغية البحث عن اجابة لما يدور في رأسي من الأسئلة في النهار، لاسيما وان أسئلتي البسيطة باتت تحتاج الى بحث وليس الى إجابة مُحددة، بتُ بحاجةٍ لأدلة وأسانيد توثق ما أريد ان أفقه، ولكنني في نهاية المطاف ايقنتُ بأن هناك العديد من الأسئلة المتعلقة بالدين لها أكثر من إجابة تحملُ الصحة.

كانت المرة الأولى التي أبحث فيها دون ان اجعل معتقداتي في دورق زجاجي مُحكم الاغلاق وأن ادفع بكل ما لقنني بهِ أبي بوجه كُل ما يخدش هذا الدورق، أضحيتُ اسمح لأن يمس النقد معتقداتي ومبادئ ديني، بعد أن وجدت الفارق بين ولادة أهم مؤرخٍ للحديث ووفاة النبي قد تجاوز المائة والثمانين عاما[9] وأن كُل ما ارخهُ كُتِبَ وتناقل بعد وفاتهِ بمائة وخمسة أعوام، وأن ليس هُناك أي كتاب أو مخطوطة بخط يده أو تعود لفترة حياته.

واصلت البحث لأصل الى إجابة لسؤالي، (ما هو البُراق)؟ ولمَ قصته تشبه قصة (بيكاسوس)؟ وقتها لم أتمكن من المكوث في القبو أكثر، كنتُ خائفاً لئلا يكتشف أبي امري، خرجتُ ضاحكاً وأنا احمل أسئلة أكثر، دخلت الى القبو لأجد إجابة لسؤال واحد فخرجت وأنا احمل بجعبة عقلي أسئلة أكثر، هذا هو الحال لكل من ظن انه يستطيع ان يجد إجابة محددة لأحداث أوردتها الأديان بكتبٍ لا تحملُ القَداسة، نحن من منح لها القداسة بعد أن لبَت لنا كل ما أردنا الحصول عليه.

بعدما كُنت أبحث عن ماهية (المِعراج) في الإسلام، خرجتُ مشدوهاً وأنا أتألم لتلك الرواية التي صورت لي بأن النبي كان يسرد أحاديثه المُكلف بنقلها الى المسلمين عن طريق الصدفة، وليس كما قال القرآن بأنهُ: {ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}[10] عجبتُ كثيراً حين قرأت ما روي عن (عائشة) بأن النبي لمح بحوزتها دُمية على شكل فرس بجناحين، فسألها: ما هذا؟ فأجابت: فرس، فقال: فرس له جناحان؟ فأجابت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك[11] لأول مرة في حياتي اتخذ قراراً أخاف منه، ولكنني تحليتُ بالشجاعة، قررت وقتها وللمرة الأولى ان أضع الشك في كل كتاب يحوم حول القرآن ويسرد أحداثاً من وحي خياله مُحاولاً فهم آياته، قررتُ ان أضع القرآن سراجاً احملهُ بيدي بوجه كل من كَتب في الفقه تفاسيراً للقرآن يروم من خلالها لأن ينال رضا الحاكم أو لأن يُلبي نزواته وشهواته وان يطفئ جينات الجشع التي أورثها من اصلهُ القُرَشي، لاسيما وأنني ايقنت وتأكدت بأن تأريخنا الإسلامي أُرِخَ وكُتِبَ بأكملهِ في العهد الاموي، في ذلك العهد الذي كان فيه الحاكم هو ظل الله على الأرض، حين كان يعتبر تثاؤب الحاكم حديثاً نبوياً وسُعاله تفسيراً لآيات القران، حين أضحت أسماؤهم (المُعتصم بالله) و(المُستنصر بالله) و(المؤيد بالله) و (القائم بأمر الله) بعدما صّدقوا ما كانوا يؤولونه وكأنهم وكلاء الله على الأرض.

دخلتُ للقبو مرةً ثانية، قررتُ البحث والاستدلال بما يقوله القرآن عن (المعراج) وان أضع جانباً كل ما قرأتهُ من خُرافات، وجدتُ آية واحدة تخبرنا عن (المعراج) وهي الآية الأولى من سورة (الاسراء)، وجدت ان الرب يخبرنا عن مسيرة نبينا من (المسجد الحرام) الى (المسجد الاقصى) فتوقفت هنا لأستدل، ما هو (المسجد الحرام)؟ وما هو (المسجد الأقصى)؟ وجدتُ ان الله قد ذكر (المسجد الحرام) في القرآن (14) مرة بدلالةٍ واضحة لا تقبل الشك، وهنا ايقنت بأن النبي سار من هذا المسجد الى المسجد الأقصى، ولكن، الى أي (مسجد اقصى) يشير والمسجد الأقصى لم يكن موجوداً في زمن النبي![12]

بعد كُل شموع البحث التي أوقدتُها في طريقي الى الحقيقة اكتشفتُ بأن (المسجد الأقصى) لم يكن موجوداً في زمن النبي وأن المسجد الاقصى الموجود حالياً في (فلسطين) قد بُني في زمن الخليفة الاموي (عبد الملك بن مروان 685م)، واستمر اعماره الى زمن ابنه (الوليد بن عبد الملك 715م) بالإضافة الى بنائه لـ(قبة الصخرة) وصَرفه للناس الحج إليها بدلاً من الكعبة الى أن تم قتل (عبد الله ابن الزُبير) وان جميع سكان (القُدس) كانوا يعتنقون الديانة المسيحية الى أن غزتهم جيوش الفتوحات الإسلامية المأسوف عليها في زمن الخليفة الراشدي (عمر بن الخطاب) بعد أن استعصى على جيش (أبو عبيدة بن الجراح) فتحها بسبب قوة قلاعها وسورها، ظلت (القُدس) صامدةً الى أن جاءت جيوش (عمر بن الخطاب) وأرادت فتحها فطلب أهلها بأن يأتي الخليفة بنفسه ليستلم مفاتيحها عام (636م) فخرج (عمر) من (المدينة المنورة) الى (القدس) تلبيةً لهذا الطلب ودرءاً للاقتتال، ولعلهم أدرى (بـعمر) من جيوش المسلمين.

تساءلت، الى أي (مسجد اقصى) يشير القرآن؟ سؤال يطرح معهُ أسئلة أكثر، هل كلمة (الأقصى) جاءت للإشارة لمكانٍ اقصى بمعنى (بعيد) عن المسجد الحرام؟ ام ان ورود كلمة (عبده) في الآية لا يشير الى النبي (محمد) بل الى أحد الأنبياء السابقين له؟ ام ان عليّ خلق الاعذار لأنصر الدين كما فعل (ابن هشام) حين أورد حديثا (لعائشة) تصف فيه النبي ليلة (الاسراء والمعراج) قائلةً: “مَا فُقِدَ جَسَد رَسُول اللَّه وَلَكِنْ أُسْرِيَ بِرُوحِه”[13] ليس بالشيء هين، حين تكتشف بأنك مخدوع بشيءٍ ذا قداسة، وقتما تكتشف الخِداع والزيف في شيءٍ لم تكُن تصدقهُ فحسب بل كُنت مؤمناً به، ليس هينا، ولكنني بعد ذلك الموقف قررتُ الوقوف على بُعد خطوةٍ واحدةٍ من كل شيء، لم اجعل ما اكتشفتهُ أن يهز اركان ايماني بوجود الله، لم اجعل القداسة المزيفة التي كشفتُ حقيقتها أن تلغي عقلي وأن تمنعني من البحث والشك فيما اسمع، قررت أن أكون محايداً، قررتُ فصل الدين عن الفقه، قررتُ ان اقرأ القرآن وأتمعن آياته دون الرجوع الى تفاسيرٍ تَنطقُ عن الهوى، ولكنني بتُ خائفا وتائها، حطمت ما كنتُ استند إليه، بتُ مُعلقاً في الهواء، بتُ آيلاً للسقوط من شُرفة ما أعتقد وما أؤمن، كسرتُ حاجز خوفي الدائب وحركتُ اصابع كف يدي، بدأتُ استشعر وأتلمس الارض المُلقى عليها، ارضاً شِبه ملساء، لا تحتوي على العشب، لا اشعر بأي شيء وأنا أحرك اصابعي، لا تحتوي على التراب ايضاً، حركت اصابعي أكثر، تَحركت بعدها اصابع كلتا يديّ مُحاولاً رفع يدي الى الاعلى لكي انهض، وجدتُ على معصمي اصفاداً حديدية، التفتُ يميناً ويساراً لأرى ماذا يوجد حولي، وجدت سهلاً اخضر ساكنا، هممتُ بالنهوض ولكنني لم أتمكن، بقيتُ جالساً، لا زالت تلك الرهبة تمتلك جسدي، اشعر وكأنني سقطتُ من مكانٍ عال، وكأنني كنت أهرب من حيوان مُفترس.

انظرُ الى الاصفاد التي على معصمي، كانت كتلك التي يضعها الاسياد بين ايدي عبيدهم في العصور الجاهلية، أنظر لها وهي تنحدر الى الأمام، واصلت تتبعُها حتى رأيتها تنتهي لشخصٍ يجلس امامي على بُعد مسافة ليست بالبعيدة، هممتُ بالوقوف لأعرف ماذا حل بي، لمَ انا هنا؟ ولمَ هذه الاصفاد تحتجزني؟ وقفتُ فذُعرِتُ من خِفة وزني، وكأنني لم ابذل أي جهد وأنا أقف، أنظر لجسدي بتعجُب، اين ذهب وزني؟ وكأنني ازن بضع غرامات، وكأنني ريشة سقطت من جنح طائر صغير الحجم.

سرتُ بخطواتٍ ثم وقفت، نظرت في كُل الاتجاهات من حولي، المكان هادئ، سهلٌ اخضر ذو ارض مُموجة بعض الشيء، تتصل الأغلال حديدية خاصتي بشخصٍ يجلس على بُعد بضعة أمتار عني، يجلسُ على سفح تل صغير، وكأن من بعد موضعهِ مُنخفض، مشيت بخطواتٍ لأصل إليه، لكنني توقفت، لم أتمكن من السير أكثر، لا أستطيع الاتجاه نحوه. كان شخصاً يرتدي رداءً ابيض، لا أتمكن من تحديد هيئته، هل هو رجل ام امرأة؟ لمَ يحتجزُني؟ من هو؟ ولمَ انا هنا؟ أريد الاقتراب منه لأسأله، من أنت؟

ناديته: من أنت؟

لم يُجبني …

صرختُ بصوتٍ عال: من أنت؟ ولمَ تحتجزُني بهذه السلاسل؟

التَفتَ وجههُ نصف اِلتفاتة، يضع وشاحاً على رأسه يُغطي مُعظم وجهه …

قال: ابق هادئاً وستعرف.

سألتهُ: لمَ انا هنا؟

اجابني: لتتذكر.

قلت: لأتذكر ماذا؟

قال: لتتذكر حياتك، وما فعلتهُ بها، انت هنا لتتذكر فقط.

قلت: من أنت؟ انت رجل ام امرأة؟

قال: ستعرف فيما بعد.

قلت: لمَ هذهِ الاغلال على يدي؟

قال: انت من وضعتها.

قلت: أنا!! كيف ومتى؟ أنا لا أتذكر شيئاً، ما الذي حصل؟

قال: انت هنا لتتذكر، لتراجع نفسك وتنظر بعينِ ذاتك ملياً، لا تخف، لن اتركك.

قلت: اتركني لأعود الى منزلي واسرتي، لمَ تحتجزني هُنا؟

سألني: وهل تعلم اين منزلك؟ ومن هي اسرتك؟

انتابني الخوف الشديد، أنا لا أتذكر شيئا، لا أتذكر سوى القبو، سوى تلك اللحظات التي كُنتُ ادخل إليه فيها، حين كنت أبحث عن إجاباتٍ لتساؤلاتي بين طيات الكُتب القديمة والأوراق العتيقة في ذلك المكان شبه المُظلم، وقتما دخلتُ خِلسةً ووجدت في احدى زواياه بالصدفة ورقةً تتحدث عن (الاسراء والمعراج) فقررت العودة للبحث من أي الصناديق والأشياء المُبعثرة سقطت، وما هي التتمة.

والخوف يمتلكني كلياً، قلت له: لن اسألك من أنت، سأسألك من أنا؟ لمَ انا هنا؟

قال: لا تخف، اخبرتُكَ بأنني لن اتركك، اطمئن، انت هنا لتتذكر فحسب، ارجع خطوتين الى الوراء، اجلس مُتكئاً على هذه الشجرة وستتذكر كل شيء، ستعرف من أنت، ثم ستعرف لمَ انت هنا.

رجعت الى الوراء وأنا على يقينٍ بأنني لم أر أي شجرة حين نهضت منذُ بُرهة، التفت فرأيتهُا تنبثق من الأرض وتعلو الى السماء وتنضج أوراقها وتثمر بثمارٍ خضراء تشبه فاكهة التُفاح في آن واحد، جلست بقربها والغرابة تمتلكُني، بين ما رأيتهُ من مُعجزة وبين صوته الذي لم أتمكن من تمييزه، هل كان ذكراً ام انثى؟ تمتلكني الرهبة وجسدي يرتعش، لمَ لم أتمكن من التقرب منه!

جلستُ القُرفصاء تحت ظِلال الشجرة الناضجة، اتكأتُ بظهري على جذعها، أجلسُ وأنا ارتعد خوفاً، أرى نفسي في غُرفة بيضاء بأغطيةٍ بيضاء، كلما ارتعدت خوفاً أرى نفسي حبيس غُرفةٍ بيضاء ساكنة، تحتوي على سريرٍ واحد وأربعة جُدران، وما ان تهدأ رعشة جسدي أرى هذا المكان الجميل الهادئ، عاد ذو الرداء الأبيض لينظر امامه، لم يعد يلتفت إلي، ظل يُردد “اهدأ وستتذكر”

انظرُ الى الأعلى، شجرةً كثيفة الاغصان، يتخللها ضوء الشمس، وددتُ ان اسأله لمَ انا لا اتنفس ولكنني لم اسأله، فكرت في الصمت لدقائق كي تهدأ رعشتي، بقيت أنظر الى الأعلى، أنظر الى اغصان الشجرة وأوراقها الخضراء، تذكرتي طفولتي …

كنتُ استيقظ على خطوات أبي وهو يدخل غرفتي، اترقب خطواته عند كُل فجر وهو يدخل، اترقب ظله من أسفل الباب وهو قادم، صوت الباب وهو يفتحه، أهم بالوقوف فوراً لأقول له قبل ان يوقظني: “أبي، أنا مُستيقظ”.

منذُ اخر مرة صفع فيها وجهي وأنا انام خائفاً، ارتعد خوفاً من أن تفوتني صلاة الفجر فينهال عليّ بالضرب، أستيقظُ خائفاً، لأُصلي خائفاً، لأبقى خائفاً ومُستيقظاً لما بعد وقت الصلاة، أبقى مُستيقظاً الى أن تشرق الشمس، أنزل من سريري مسرعاً باتجاه أسِرة اخوتي لأوقظهم، اخاف من أن يوقظهم أبي فينتابهم الفزع، كانوا صغاراً على ان يوقظهم صوت يُهددهم بنارٍ ستكوي وجوههُم لو لم يستيقظوا لأداء الصلاة، كنت اخاف عليهم من بكائهم، اذهب مُسرعاً لأوقظهم بصوتٍ خافت.

بعد وضوءٍ شاق، نقف صفاً خلف أبي لنؤدي الصلاة، أقف وسط اخوتي الصغار لأضربهم بمرفق يدي لو غلب أحدهم نومه على صلاته، كنُا ننصت كذباً للآيات القرآنية التي يتلوها أبي لأن النُعاس لا يزال غالبا على أعيُننا، كنت اتوسط اخوتي كي لا يميل أحدهم في وقوفه، كان أبي يريدنا ان نقف بخشوع، في الوقت الذي كانت أعمارنا لا تمتلك عقولا تفقه معنى (الخشوع).

قطع أبي صلاته ذات يوم والتفت وشاهد اجفانُ اخي الاصغر مُغلقة، صفعهُ على وجهه وصرخ قائلاً: “ألم أقل لك بأن تقف خاشعاً في الصلاة؟” وددتُ وقتها بأن اقول لهُ بأنهُ ما زالَ في السادسة من عمره، لا يعلم معنى (الخشوع)، لكنني لم أقل شيئاً، كنت خائفاً من أن يضربني مثله.

تنتهي الصلاة بعد أن يلتفت أبي يميناً ويساراً، يركض اخوتي بعدها الى اسرتهم ليستغلوا كل دقيقة تمر في النوم، لم يتبق لديهم الوقت الكثير قبل النهوض والذهاب الى المدرسة، أبقى بجوار أبي من اجل التسبيح، أنظر في عينيهِ فأرى الغضب الصامت، يغضب من اخوتي لتركهم مكان الصلاة مُسرعين الى النوم، كنت أبقى لدقائق بقربه لكيلا يلومهم، لينظر لي وينسى امرهم، يهزُ رأسهُ ثُم يقول “لو كان التسبيح واجباً لضربتهم عليه”.

اقضي الوقت المتبقي للصباح في التفكر بكل شيء منعني أبي من التفكير به، أفكر في اجوبة كل الاسئلة التي تطرح موروثاتنا ارضاً، موروثاتنا التي يَحقنّا أبي بمصلها في كل وقتٍ دون السؤال عن ماهيتها؟ أو عن أسباب تكوينها؟ منذُ الصغر وأنا أفكر في خالق الكون، أفكر في وجودهِ من عدمه، أفكر فيه مؤمناً بوجوده، مؤمناً بكتبهِ السماوية، مؤمناً بالقرآن الذي نُزُل على نبيه، مؤمناً بنبيهِ ورسالتهِ، ولكن هناك ثمة تناقض يفتك بأيماني السادي، سادي لأنني تلقيت ضربات على وجهي لكي أؤمن به.

صفعني أبي ذات مرة لأنني سألته عن أسباب حَج المسلمين الى مكة في كل عام؟ لمَ يطوفون حول الكعبة كما كانوا يطوفون حولها قبل الإسلام؟ لمَ الكلمات التي كانوا يشدونها في الجاهلية تشبه ما يشدونهُ عند الحَج بعد ظهور الإسلام؟ الكعبة بكلا الحالتين ذات الحجر والطواف ذات الطواف؟ سألتهُ لمَ القرآن يقول بأن: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[14]وهم يحجون لأيامٍ قلائل في شهر (ذي الحجة)؟ ما كان عليه سوى ان يجيبني، ان يناقشني، ان يلبي حاجة تساؤلاتي، عمري يزداد وعقلي بدأ يتفكر، كنت لا أريد اتباع ما يقوله إتباع الاعمى، إلا أن قسوته جعلتني كذلك، جعلتني اعمى وأبكم وأصم.

انا من بلاد القهر، من بلاد الكَبت من اجل العيش، أنا من (أفغانستان)، ولدتُ من أب غنيٍ جداً، مُترفٍ وذي جاه ومال، زعيم احدى أكبر قرى (قندهار)، نشأتُ في بيت مُتدين، كان أبي شديد التعصب لمذهبه، تعلمت منه تعاليم الدين واسسهُ، نشأت كما أراد لي ان أكون، نشأتُ فقط، قضيتُ فترة الصِبا في (كابل)، مدينتي الحبيبة، اعشقها بنهرها وبجبال (الهندكوش) التي تحيطها، قضيتُ أجمل أيام حياتي برفقة تلك البنت التي عَشِقتُها قدر تعلق الامر بالعشق، كان أسمُها (مريم).

لم يدرك الجمال مَن لم ير عينيها مع انعكاس ضوء اشعة الشمس، جميلتان كنوايا عاشق وهو يلتقي بمن يعشقُ سِراً، رؤية عينيها عند الصباح كانت بمثابة ولادة ابن لرجلٍ ريفي شَغلَ العُقر سنين شبابه، كانت تلد الامل مع كُل حركة لأجفانها، تنبثق من عينيها ألف كلمة حُب تُشير لي بأنها مُعجبة بي، كانت نظراتها تراودني عن قلقي وعن تلعثم مشاعري حين مكثتُ مُرتاباً من التقرب منها لفترة طويلة، وأنا اسير وسط أوراق الشجر المُتساقطة على الأرض ابان مجيء فصل الخريف، رأيتُها أول مرة، تساقطت أوراق الشجر وكست الأرصفة، اعلنت قدوم الخريف وولادة الحُب في حياتي، لم اعرف الحُب من قبلها، لم أعرف ايضاً بأن الحُب الذي يولد في الخريف لا يدوم طويلاً.

جاءت على غفلةٍ من إرادة الأقدار، كما تجيء الزلازل للجزر الاسيوية، رأيتُها فخرق جمالها اجفان عيني كما يخرقُ الرعد غيوم الليل، رأيتُها وهي تعلن ثورةً في مُدن المشاعر التي اكنُها لمجيئها، رأيتهُا لأول مرة وهي تبتسم فرأيتُ الحياة بأيامٍ ليست كأيامي، في أول مرة تشد فيه انتباهي، رأيتُها جالسةً لوحدها تتأمل بين يديها كتاباً صغيراً، كانت الفيصل بين الليل والنهار، بين الصحو وتلبُد الغيوم، تجلس والرقة تتناثر من خُصلات شعرها المُتدلي بالقُرب من صفحات الكتاب، لها أنوثة ما على الارض من أنوثة، جميلة لدرجة الابهار، تُحركُ رأسها فتُهدم خُصلاتها اسوار جنةً موعودةً لمن اتقى، رأيتُها وأنا غافل عمّا تُنص عليه أساطير الحسن عند النساء، رأيتُها فتذكرت ما قالهُ الفرنسي (Dom Pérignon) حين اخترع شراب (الشامبانيا) عام (1921)، حين نادى على اصدقائِه قائلاً: “تعالوا بسرعة، أني اتذوق النجوم”

جالساً في الهباء، مُتكئاً على السُدى، أبحث عن ذاتي فأجدُها ممزقة، أجمع عمّا يلزمُني من رُقع تكفي لحجب خيبتي، حكايات قديمة حملتها صهوة الريح، يضمرهُا الوهن، أهرب منها داخل خيمة الاسف، اوقدُ نار الندم، أصنع ذاكرةً تُعيدُني لعام 1976، كنتُ مُرغماً على أن أكون طالباً في كلية الشريعة الإسلامية، كنتُ أهرب من دراستي لألتقي بها، لأجلس معها خفية عمّا يُحيطني من آسى، أخاف لئلا يراني أحد ويخبر ابي، كانت ملاذي الآمن من حياةٍ لا أطيق ايامها، ومن دراسةٍ بتُ أكرهها لكِذبها وخِداعها، كانت حياةً على معزلٍ من الحياة، لبرهةٍ من زمنٍ لا يُحتسب من عمُري، كنت أهرب برفقتها من كل ما كان يحيط بي، أخبرها حين تكون جليستي عن كل ألم بداخلي فاق حدود الصُراخ، أخبرها لتهون عليّ جَور ابي، أهرب معها الى دُنيا غير الدُنيا التي كنتُ أعيش فيها، كانت الامل الذي يحتويني، كانت الامل الذي يبقيني على قيد الحياة، بعدما فكرتُ كثيراً بالانتحار، فكرتُ بالانتحار تارةً وفي الهروب تارةً أخرى، رأيتهُا عدة مرات، تبتسم وهي تُحدثُ رُفقائها، آسرتني وسرقت النظر من عيني، كانت جميلةً للغاية، لها عيونٌ أفغانية الخَلق، لون بشرةً يضاهي لون السماء، شَعر يُسابق مجرى نهر (كابل)، كان جَمالُها مُجمل جمال اللوحات التي رسمها فنانو القرن الثامن عشر في اوربا.

أسابيع عديدة وأنا اراقِبها بصمت، خفت محادثتها فترفض الحديث معي بسبب ذقني، كان أبي يمنعني من حِلاقته، كان لي ذقنٌ أكرهه، بسببه لا أرى انعكاس وجهي في المرآة كل صباح، اظهر من خلالهِ بهيئة التلميذ المُتدين والمُلتزم بما يقوله فقه دينه، يقول (أطلقوا اللحى) في الوقت الذي كان من الاجدر بهِ ان يقول (أطلقوا العنان لتفكير والشك)، قررتُ ذات ظهيرة ان أفصح لها عن حبي، تتبعت خطواتها وهي خارجة، استمتعت بعزف اقدامها وهي تسير، حتى انني تراجعتُ عن قراري بالتحدث معها لئلا يتوقف عزفها، سرتُ خلفها فأزداد حبي لها، أحببتها أكثر، احببتُ انعكاس ظِلها على الأرض، تتبعتها حتى …

ناديتهُا: هل سمحتِ لي؟

توقفَت ثم التفَتت لي، حملقت بي ثم قالت: ماذا تُريد؟

اعتدتُ قراءة نظرات أعين أي انسان احادثهُ وسط خليط طلبة الجامعة، كنت اعرفهُ إن كان (شيوعي) الانتماء ام (إسلامي)، فليس هنالك مُعتقد يشغل الطلبة غيرهمُا آنذاك، كان (الشيوعي) ينظر لوجوهنا بنظرةٍ شاردة، هذا ان كان مُحترماً وذا فِكر نَير، أو أن تعتلي وجهه إيماءات الضجر اما بحركة من شِفاهه أو بحركة لأجفان عينه إن كان مُتطرفاً و ذو عقل لا يقبل فِكراً مُغايراً لفِكره، والأمر سيّان للمُتشددين الإسلاميين.

اجبتُها: اردتُ التحدُث معكِ، هل سمحتِ لي؟

ابتَسمت وأنا مُتعجبٌ منها، لم أر غريباً يبتسمُ بوجهي منذُ فترة طويلة …

اجابتني: بكل سرور، ولكن ليس الان، انا على عجلة، اراكَ وقتاً اخر.

اجبتها: سأنتظرُكِ غداً، في هذا المكان (اشرتُ بيدي الى احدى زوايا الحرم الجامعي).

وأنا اُشير بيدي، نظرتُ الى المكان الذي اقصده بصورةٍ لا ارادية وأنا اشير له، وحين كررتُ النظر لها وجدتُها تنظُر لي بابتسامةٍ لطيفة دون أن تنظر الى ما كُنت اشير، ظننتُ الكثير وخمنتُ الكثير وكل ما ظننتهُ وخمنتهُ أسعدني.

قالت وهي تَقدم على مواصلة السير: اعدُكَ، الى اللقاء.

تابعت سيرها وأنا لا زلتُ ارفع يدي وأشير الى مكان لقائنا غداً، سارت بخطواتٍ لها ذات الموسيقى التي كنتُ انصتُ لها وأنا اتتبعُها ….

قُلت لها بصوتٍ غير مسموع وهي تبتعد: الى اللقاء.

امتلكت الوفير من الفرح، لأول مرة يُعاملُني شخص في الجامعة من غير الذين على شاكلتي بهذه المودة، لأول مرة اعود الى البيت وأنا اُقايض مشاعر البغضاء بالسُؤدد.

كانت الحياة الجامعية في مُجتمعنا تنقسمُ لنصفين صريحين، (الشيوعيون) و(الإسلاميون)، كانت بذرة هذا الانقسام هي إقرار دستور الدولة عام (1931) والذي نص على أن الدين الرسمي للدولة هو (الإسلام)، كانت هذه هي النواة، وفي عام (1964) لم يكتفِ الشعب بإقرار دين (الإسلام) بكونه الدين الرسمي للدولة، بل الزمَ الحكومة بتغيير الدستور لأن يكون المذهب (الحنفي) هو المذهب المعمول بهِ تحديداً وعدم الاكتفاء بذكر (الإسلام)، وهذا ان دل على شيءٍ فإنما يدل على ان (الإسلام) آنذاك بات غير واضح المعالم ومُنقسم الى أجزاء لا تتقارب مع بعضِها البعض، أراد الشعب الافغاني بأن تكون (الحنفية) هي أساس دين الدولة بعد أن اصبح لدين (الإسلام) دلالاتٍ ومفاهيم عدة، في كل دولة. وكما في كل زمانٍ ومكان، يكون الحرم الجامعي هو الانعكاس الأشد وضوحاً لأفكار المجتمع، يكون وليد كل نقطة خلاف فكري يختلف بشأنها المجتمع، لا شك في ان الكثير من الدول شهدت تغييراتٍ سياسية كانت نواتها تظاهرةً جامعية.

اعمار الطلبة في هذه المرحلة تدفعهم لأن يقوموا بالتغيير، خاصةً بعد أن يشعروا بأن لهم أفكارهم الخاصة وأن بإمكانهم طرحها خلال المحاضرات الجامعية وإمكانية استعمالهم للغة الحوار بعد أن منعوا منها من قبل، لطالما رأينا الأحزاب وهي تنشر افكارها في الجامعات بالدرجة الأولى، الحرم الجامعي هو الأرض الخصبة لأفكار التحزب والانتماء أو لتبني الأفكار الكفيلة لأن تطرأ التغييرات المُباشرة على المجتمع، فضلاً عن ان عقول الطلبة في هذه الفئة العمُرية تكون صالحةً لتلقي أي افكارٍ تؤثر التأثير المُباشر على فهم الطالب الجامعي وتعطيه القوة التي تدفعهُ الى البحث عن تكتلات وتجمعات تكون فيها الأفكار التي يدعون إليها واحدة لتمتاز بالقوة لكثرة مؤيديها.

المُجتمع في (أفغانستان) كان عِرضةً لتيارين فكريين متوازيين بالقوة، (الشيوعية) و(التشدد لفقه الإسلام)، أو كما يُشار لهم (بالأسلمة)، إلا أن هذه الدلالة لم تكن واضحة، لأن مفهوم (الأسلمة) يحدد الانتماء الى (الإسلام) فحسب، ولكن الى أي (إسلام) نشير؟ لم يعد هناك (إسلامٌ موحد)، التياران كان لهما تأثيرهُما الخاص بالفطرة، (الشيوعية) جاءت بأفكارٍ اشتراكية ومبادئ ماركسية تريد من المجتمع ان يكون بلا طبقات وذا مُلكيةً مُشتركةً تؤدي لانتفاء الحاجة من استخدام المال وتداوله، و(التشدد للإسلام) جاء بضرورة الالتزام بما شرعهُ السلف الصالح مع ضرورة تحديد (ولي أمر) لكل فترةً زمنيةً يتولى خلالها قيادة المُسلمين بحسب التراث الديني المُتواتر والذي ظل خاضعاً لإضافات (أولياء الامر) على مر الزمان كُلاً بحسب ما اقتضت مصلحته ومصلحة زمانهِ ومكانه.

تلقى التياران قسماً من المؤيدين من خارج الحرم الجامعي، كان المُتلقي متفقه بعض الشيء لمبادئ كل تيار، كانت نسبة الجهل قليلةً نوعاً ما، وكان من الممكن ان نرى أحد المُتلقين لهذين التيارين يسأل عن مفاهيم التيار وفحواه والى أي هدفٍ يصبو، أو أن يُقارن أفكار التيار مع الأفكار التي امتلكها بحكم المجتمع أو بحكم عقليتهِ وتوجههِ العقائدي، لأن المجتمع الذي تربينا عليه، شِئنا ام ابينا، يفرض علينا عدةَ مفاهيم نتبناها دون نقاش لأنها كانت بحكم النشأة، في الحرم الجامعي الامر مختلف بعض الشيء، فقد لا نجد هؤلاء المُتسائلين، لأن فترة نشوء العقل في هذه المرحلة قد تكون خاضعة للغرائز. في مجتمعنا عموماً وفي الحرم الجامعي خصوصاً، كان الطلبة فئتين ايضاً، فمن يُريد التمتع بما تحملهُ الدُنيا من متاع ولكنهُ امتنع عنها بحكم القيود الدينية، كان لُقمةً سائغةً للأفكار (الشيوعية)، فمن نادى (بالشيوعية) في الحرم الجامعي وعد المُتلقي لأفكارهِ بمنزلةً أعلى وارفع من منزلة (المُسلم)، لأنهُ وصف المُسلم بالجاهل المُتبِع للعادات القديمة، المُنصت لأساطير الاولين دون استخدام دليل العقل، فضلاً عن انهُ منح للمنتمين إليه حرية شُرب الخمر وممارسة العلاقات الجنسية كيفما يشاء وعدم الالتزام بأي نوع من أنواع العبادة، أوصاهُ بأن ليس هنالك أي التزامات على عاتقهِ سوى الدفاع عن نظرية (داروين) في نشأة الخلق، ولكنهُ نسى ان يخبرهم شيئا عن الأفكار الماركسية، ونسى في بدء كلامه ان يعرّف لهم معنى (الاشتراكية). هكذا رأيت أوائل ندوات (الشيوعيين) في الجامعة. القسم الاخر كان مُتمسكاً ومُتشدداً لأفكارهِ الدينية، نشأ تحديداً من وسط كلية الشريعة الإسلامية في (جامعة كابل) عام (1958) مُنبثقاً بأفكارٍ جاءت مُتأثرةً بحركةِ (الاخوان المُسلمين) التي أُسِست في (مصر) عام (1928)، كان هو الاخر لقمةً سائغةً لدعاة (التشدد للإسلام) لأنه كان يسمع ضمن الندوات الدينية عن الاجر العظيم (للجهاد) الذي فرضهُ الدين ونص عليه القرآن ولكنهُ لم يجد الحيز الذي يسمح لهُ بالإيفاء بهذه الفريضة المهمة حتى احتدم الامر في الحد من أنتشار الشيوعية، جاء التشدد ليخبره بأنهُ بمجرد تمسكهُ بدينه ونشرهُ إياه ونشر أفكاره بين الوسط الذي يعيش فيه يعتبر بمنزلة الجهاد، أعطى الدليل في نهاية ادعائهِ على ان (الشيوعيين) في منزلة الكُفار، لأن مؤسسيها ليسوا من بلاد المسلمين وافكارها ليست إسلامية، بعد أن جاءت من دول وزُعماء الاتحاد السوفيتي وان كل من أنتمى إليها اصبح بحكم (المرتد). وكان المُتلقي (للتشدد) ذا أذنٍ صاغية، لأن افكارها جاءت تأييداً لما قرأ ولما تربى عليه في بيوت العبادة واكدت لهُ بأن ما قرأهُ في تُراث دينه ليس اوهاماً، وأنهُ ليس كما نعتهُ زميلهُ (الشيوعي) بأنهُ مُتبع للأوهام، منذُ ذلك الحين وهو ينام قرير المبادئ.

أخزُ جسدَ الذكرى فينساب الحنين منه ببطء، أتذكرهُا وهي بريقُ كُل ذكرياتي، حلوى وجودي، مرارة قهوةٍ تلذذتُ بها ذات صباحٍ وأنا اشربُها على عجلٍ لأنني سألقاها. أتذكر أول لقاء لنا، أتذكر جيداً عِناقنا الاول، كانت أول مرة المس فيها امرأة، أتذكر كل ما كنت أنظر إليه وأنا اعانقها، شكل الأشجار التي تحيطنا، لون مقعدنا، الطقس، الظلال الباهتة لأغصان الشجر على الأرض، أثر ضوء أعمدة الطُرقات على الشوارع، أتذكر كل شيء، أتذكر دقات قلبها وأنا اشعرُ بها بين أضلعي، همسات فؤادُها الذي كنت اقطن فيه طيلة تلك السنوات، كانت تُراهن بجمالها ضياء القمر، وتُقامر طلوع البدر بابتسامة ثغرها، كانت تحجب بضفائرها اشعة الشمس، تُبعثر ترتيب النجوم لو تَحركت اجفانها إيماءً بالخجل، اتذكرُها جيداً، اغوص الان في ملامحهُا، تفاصيل وجهها وهي تتكلم، لا زلت الى الان احتفظ بها، لا زلت احفظها عن ظهر قلب.

كنتُ اجلس بالقرب منها اُلوح بيدي كما يلوح الغريق لمنقِذهِ، كانت كلماتي بقربها كـقاربٍ صغير وهي كـالبحر العميق، كنت انسى من أنا لو نَظرت لي، اضحى بقربها اوهن من صوت حفيف الشجر، كنت أهرب إليها من واقعٍ لا يقبل الانصاف، كنتُ أهرب اليها كما يهرب طائر (الكناري) من القفص، كانت لي الأمان بعدما اخافني كل شيء، أهرب إليها راكضاً، كما يركض الطفل لأمهِ بعد سماع صوت الرعد، تمتلُك عيوناً عميقةً والجلوس بقربها يشبه الطقوس (الصوفية)، طقوسهم يشوبها التكرار ونحن نراهم يرددون ابتهالاتهم مع بعض الحركات الجسدية. تتكرر الأشياء قرب (مريم) دون ان تكرر، في كل مرة اراها فيها وكأنني ارها للمرة الأولى، وكأنني لم التق بِها من قبل، كنتُ احبُها بكل ما على الأرض من حُب، تائهٌ بين ما يسرد عقلي من ذكرى وسط هذا الزحام الساكن، خاشعاً في كُل ما اسرد، لكنني تائه، وكأني اُناجي إلهاً لا أعبده، اسرد ما مضى عليّ من أيام وأنا غير راضٍ عن نفسي، امسك بسوطٍ يضحكُ مُتخفياً وأنا اجلدُ بهِ ذاتي، تائه، ولكنني مُتأكد من كُرهي لأبي.

كان لأبي منزلٌ كبيرٌ، قصرٌ يحتوي على الخدم والحرس والجواري، كان الوريث الوحيد لكل ذلك من جدي، وكان جدي يتزعم القبيلة من قبله، ورث أبي عنه كل شيء، المال والجاه والمكانة الرفيعة، إلا العلم، فإن أبي اكتسب العلم بذاته، اكتسبهُ بتطرف وتعصب، ما يقرأهُ هو يكون بالنسبة لنا واجب الاتباع، وما لا يقرأهُ يكون مُحرما حتى ذكر اسمه امامه، احتوى منزلنا على مئات الكُتب، ورث أبي بعضها واقتنى بعضها الاخر، لكنهُ احَسنَ قِراءتها وأجاد التحكم بعقول المئات من اتباع قبيلتنا بموجبِها، كان يجيد ابداء الرأي وإعطاء الفتاوى بحسب ما ينص عليه مذهبهِ فقط، وكل شيء خارج مذهبه وعقيدته كان بنظرهِ باطلاً، وغير واجب الاتباع وأحياناً يصل الى درجة الكُفر، كان أبي يتحكم بمصير قبيلتنا وقريتنا وهو يسكنُ في (كابل)، لهُ العديد من المراسلين والاتباع يأتون ويذهبون كل يوم من (قندهار) الى (كابل)، كان على من يريد رؤيته ان ينتظر لأسابيع، أو لأشهر، إلا أنه كان مواظباً على الذهاب كل يوم جمعة الى القرية لإلقاء (خُطبة الجمعة) على اتباعهُ الذين كانوا بحاجةٍ دائمة لمن يُطمئَنهم بأنهم على النهج الصحيح وأن حسناتهم في تزايد مُستمر، لا شك في ذلك بعد أن اخبرهم بأن جلوسهم امامه وإنصاتهم لخطبتهِ فيها الاجر العظيم، فضلاً عن سيرهم الى المسجد بخطواتٍ عديدة وفي كل خطوة منها حسنة وكل حسنة بعشرة من امثالها، هكذا كان يقول في بادئ خُطبته، فأرى الطمأنينة على وجوه المُستمعين، هم فرحين جداً لأنهم سيدخلون الجنة، اذهب معه مُرغماً الى القرية لأنصت لخطبته، أرى الاعداد الوفيرة التي تأتي من كل أطراف القرية ومن خارجها للإنصات له، اراهم يأتون بعقولٍ فارغة يحملونها كما يحمل الطفل الوعاء، يرفعونها بأيديهم الى الأعلى وهم يجلسون في المسجد كي تمتلئ قَدر المُستطاع من كلام ابي، كُنا في عصرٍ يُسمى بالعصر الحديث ولا تزال العقول تخشى التفكير، تخاف إلا تكون افعالها لا تُرضي الحاكم، فالحاكم هو ظل الله بالنسبة إليهم، اما عن أبي فإن الامر مُختلف، فهو ليس ظل الله فحسب، بل هو المُحيي المُميت، الواهب المانع، القادر على كل ما يقوله، كان كذلك لأنهُ كان يضع الاحكام الفقهية على كل الأفعال حين يأخذ دور القاضي بعد نهاية إمامتهُ للصلاة في كل يوم جمعة.

اصبحتُ في عمر الصِبا وصرتُ اجلس في الصفوف الأخيرة في خطبته، كانت غايتي رؤية رد فعل المُستمعين، احلم بيومٍ أرى فيه شخصا يسألهُ عن مصدر حُكم أو عن سند فتوى معينة، احلم بأن أرى أحدهم يُعقب على قوله، بقيت احلم ولم أر أحد يسأله، بعد نهاية الصلاة، وبعد ان ينهال الجمع الذي كان يصغي لأبي على تقبيل كف يده والتبرُك بعباءته، نذهب الى أحدى بيوت كِبار (قندهار)، كانت مسألة استقباله عادةً يتداولها كبار المدينة، نجلس امام وليمة لا يتمكن من تناولها عشرون شخصا، كان عددنا في الغالب لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولكن مكانة أبي في مجتمعه تقتضي البذخ والتبذير، نجلس في كل مرة وأنا أنظر لأبي بغرابة، لأنهُ يقول ما لا يفعل؟ سمعتهُ على المنبر يوصي المُصلين قائلاً: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[15] أوصاهُم ايضاً: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[16] أنظر لهُ فيُخيب ظني بهِ، اتساءل دائماً، لمَ المسلمون لم يمنحوا الأهمية ولم يُدونوا الحدود ولم يفرضوا التعازير بشأن الاسراف والتبذير إسوةً بالربا والسرقة؟ ألم يمنع الله الإسراف والتبذير بآيات قرآنية؟ ألم يسبق فعل المنع أداة (لا) الجازمة حالها كـحال بقية المُحرمات الواردة في القرآن؟ ألم تستوفي (لا) الجازمة الشرطين الواجب توافرها ليكون الفعل (مجزوما)[17] تساءلت لمَ لم يتعاملوا معها كبقية المُحرمات الوارد ذِكرها في القرآن؟ ولكنني حين رأيت ملامح الغِبطة على وجه أبي وهو وسط هذا الكم من التباهي والافتخار عَرِفتُ الإجابة.

ينتهي أبي من الطعام فننتهي معهُ على الفور، كان لا يرضى ان يبقى أحد منا من بعده جالساً إذا وقف، يجلس ليتداول شؤون القرية، يجلس على انفرادٍ ولا يجعلنا نسمعه، اختلست السمع ذات مرة فسمعته يأمر بإقامة حد السرقة على احدهم، أوصى بقطع يدهِ من مرفقها، كان حديثه مع مشايخ القرية، ظل ذلك الموقف مُعلقاً بذاكرتي ولم أنسه، حَداً أوصى به كباقي الحدود دون أن يسمع من الفاعل شيئا، كان يستمع الى كبار القرية فقط، اراهم وكأنهم يستأذنوه في إقامة الحَد ليس إلا، يطلبون أحكاماً شرعيةً تُناسب ما يرومون فعله، كان لا يتردد في سرد الاحاديث النبوية وأقوال الاسلاف في كل قرارٍ يعطيه، لم أره يوماً يتكلم من دون دليل أو سند فقهي، ولكن عن أي فقه يتحدث وأساس البُنيان خاطئ، بلغتُ من العمر ما يكفي لأن تبلُغ افكاري درجة التفكُر، بدأت أبحث وأتساءل لمَ كُل هذا، لمَ هذا الظُلم؟ لمَ لا يسأل أبي عن السارق قبل ان يأمر بقطع يده؟ لمَ لا يسأل عن مستواه المعيشي ومقدار دخله؟ لمَ لا يسأل عن ماهية ما سرقهُ؟ هل سرق الطعام ام شيئا آخر؟ لمَ يأمرهم بأن يقيموا الحد في السر وليس امام أنظار الناس والدولة؟

سمعتُ صوتاً يقول لي: لمَ لم تَطع اباك؟

عُدتُ من ذكرياتي الأليمة الى تلك الشجرة التي اتكئ عليها بعد سماعي لذلك الصوت، يسألني ذو الرداء الأبيض لمَ لم اطع ابي؟

سألتهُ: هل ستقول لي من أنت؟

اجابني: كلا

قلت: إذا اردت التحدث معك كيف اناديك؟

قال: انا قرينك.

اجبتهُ بهدوء: يا قريني، انا لم أطعهُ لأنني ابغضه.

قال: لمَ تبغضه؟

قلتُ: لأنهُ ظالم، ظالم حد البشاعة، لم انس وجه تلك المرأة، ظل يلاحقني لأعوام.

قال: أي امرأة؟

حدثتهُ عن امرأةً كانت السبب في أن اعيد النظر فيما أؤمن، كانت نقطة التغيير، بدأتُ بسببها اتفحص كل ما كنت اتبعهُ إتباع الاعمى …

في يومٍ مُمطر، وقفت مع أبي بعد تجوالٍ صغيرٍ في القرية امام حُفرة وضِعَت فيها امرأةً كانوا يرمونها بالحِجارة، دفنوا نصف جسمها السُفلي وقيدوا ذراعيها، كانوا يرمونها بالحجارة ويقولون “فليغفر الله لكِ” لم اعلم ما الذي اقترفته، الامر غريب، كيف يضربونها ويدعون لها بالمغفرة في ذات الوقت! فعلت كما يفعلون، قال لي ابي: “إضربها لتكسب الأجر” ظلوا لدقائق يقذفُونها بالحِجارة وأنا معهم، ولكوني كنت اصغرهم تقربتُ منها وأنا مُستمرٌ بضربها، نَظرت لي والدم يخرج من فَمها، ضربتها بكل الحجارة التي كنت احملُها بيدي، حتى بقيت اخر حجارة، توقفتُ ومن معي عن ضربها بعدما رأينا رأسها يتدلى لجهة اليسار، صحتُ بصوتٍ عال: “ماتت، ماتت، الله اكبر” التقطت انفاسُها الأخيرة وهي تنظر لي، تقربتُ منها لأتأكد من أنها ماتت، نظراتُها لي ارعبتني، تقربت منها، وجدتُ رأسها قد تهشم قليلاً، نظرتُ في عينها فرأيت دمعة على طرفها، نزلت وأنا أنظر لها، كان موقفاً شديداً على عمري، لم تُفارقني تلك النظرة ابداً، بقيتُ لثوانٍ أنظر لوجهها بدهشة، حتى اخذ أبي بيدي وسرنا بعيداً عنها، سرنا وأنا التفت لها حتى ابتعدنا.

يسألني قريني: هل كُنت تعرفهُا؟

قلت: كلا.

قال: لمَ حزنتُ عليها إذاً؟

قلت: حزنتُ عليها حين اكتشفتُ بأنني ارتبط بها برابطة أسمى من روابط القرابة والقومية والعِرق، كانت تربطني بها رابطة (الإنسانية)، منظر دمعتها وهي مُعلقة بين اجفانها ظل بأذهاني، وقتها سألتُ نفسي وانبتُها، لمَ ضربتها؟ ألم يتوجب عليّ ان اعلم بجُرمها؟ وإن عرفتُ جُرمها، لم هذا الحُكم؟ اين الأدلة؟ اين الشهود؟ لمَ أنا من يُحدد عقوبتها؟ لم أكن بالغاً لسن الرشد بعد.

يسألني قريني: وبسبب ذلك كرهتَ اباك، أليس كذلك؟

قلت: كلا، هذه كانت البداية، من هنا بدأتُ بالتفكُر، ثُم مضيت قُدماً الى أن وصلتُ الى قناعةٍ تامة بأنني يجبُ ان أكرهه اشد الكُره.

أن تُخالف واقعك ومحيطك الذي تعيش فيه فهذا ليس بالشيء اليسير، صعب جداً ويزداد الأمر صعوبة منذُ البدء بالاستغراب من واقعك، وقتما تجد أنك على خطأ بعد مُضي سنوات من اتباعك لأشياءٍ كُنت تتبعها بقلبٍ هادئ وعقلٍ هانئ، موقفٌ عصيب وقتما تكتشف مُعتقداتك بأنها قد صُنعت من رمال شاطئ، هدمتها أول مُوجة تفكير فساوتها أرضاً.

وأنت على هاوية البحث في مُقدسات دينك، تجد نفسك بين خيارين، اما ان تبقى ضمن واقعٍ كاذبٍ تشمئز منهُ نفسك لمُجرد أنك تعيش في حيزه، أو ان تهوى وأنت لا تعلم ما سيؤول إليه مصيرك، ما الذي ستلقاه أسفل الهاوية، على الهاوية أنت بأمان لمجرد أنك تقرُ بالبقاء، ولكن ما ان تُقرر القفز فالأمر الى ما سيؤول؟ لن تعلم. حتمية الاحداث من حولنا تمنعنا من أن نهوى لمِا بعد الهاوية، هكذا يقول لنا المجتمع، يقول دائماً بأنها حتمية، عاداته تخبرنا كل يوم بأن كل شيء حتمي وعلينا الالتزام بذلك، الدين أخبرنا ايضاً بأن كل شيء مكتوب في لوح القدر، ولكن ابسط سؤال يتطرق الى اذهاننا وقتها، ما الداع؟

ينعدم هذا السؤال حين يكون الداع قوةً ما في داخلنا تمنعنا من النوم، قوةً تجعلنا مستيقظين اغلب أوقات اليوم وعموم أوقات السنة، اما في حال عدم تطرق هذا السؤال الى البعض فإن حتمية الأمور ستقضي على أي تساؤل قد يتطرق الى اذهانهُم وستقضي القُدسية الممنوحة بُحكُم الدين على ما تبقى من نوايا للتساؤل، لأن الشك في أصول الدين وجذوره نوعاً من أنواع الكُفر، اما عن أولئك الباحثين عن الحقيقة، فلن يهدأ بالهم طيلة أيام حياتهم، لن يناموا النوم الهانئ، لن يتساءلوا عمّا ستؤول إليه نهاية الهاوية التي يقفون عليها لمجرد انهم مروا بالموقف الذي مررتُ به، لو أنهم رأوا اخر دمعة ذرفتها تلك المرأة، لعرفوا حجم الندم الذي انتابني وغلاظة السوط الذي جلدتُ به ذاتي، هؤلاء سيقفزون، كما قفزتُ انا، قفزت وسلمتُ أمري لما سأكتشفه وللنتائج التي سأحصل عليها.

قررت إن لا أكون من عبيد أبي واقواله، إلا أكون ضمن القطيع الذي يتبعهُ، لم اكن أريد ان انشأ على شاكلته، لم اكن أريد ان أكون مثلهُ حين اكبر، أصبحت بسببهِ اكره كل شيء يفعله وأود ان افعل اضداد افعاله، من دون أي سبب حتى وان كنت غير مُقتنعٍ، اردت ان انشأ صالحاً، ان أكون مسؤولاً عن جميع افعالي بقناعةٍ وليس مُلقَناً بها، افعلها لأن الاسلاف فعلوها وهذا ان ثَبُت بالدليل القاطع، ولكن من أين لي بالدليل القاطع، وكل شيءٍ أبحث عنه اجدهُ من اقوال (فلان عن فلان)، لم اكن أريد ان أكون مثله .. عارياً بين الجواري.

قاطعني قريني مُتسائلاً بغرابة: هل كان لأبيك جوارٍ؟

اجبتهُ باستغراب أكبر: انا لم أتكلم، كيف عرفت؟ الأفكار تُسرَد في خاطري فقط، انا لم اتفوه بكلمة!

قال: لا تسأل عن كيفية ذلك، انا اشاركك كل شيء يمر على اذهانك هُنا، حتى وإن لم تخبرني به، أنصت لعقلك الباطن، تكلم ان شئت، وإن شئت تذكر فقط، أنا بكلَتا الحالتين أسمعك.

قلت: ارجوك أخبرني ماذا تريد مني؟ لمَ تحتجزنُي؟

قال: ستعرف فيما بعد، ابق جالساً كما انت وأخبرني، هل كان لأبيك جوارٍ؟

قلت: نعم، كان لهُ جوارٍ، تشاجرت معهُ ذات يوم بعد أن فتحتُ باب النقاش معهُ خلال حديثُنا لما بعد الصلاة، تحججتُ بأنني مررت بنقاشٍ انتهى بسِجالٍ مع أحد المشايخ في الجامعة، كان بصدد احكام الجواري والإماء.

سألتُ أبي وقتها، وأنا اتصنع السذاجة: أبي، لمَ الناس منقسمين الى حُر وعبد؟

اجابني: الحُر من كان ابوهُ حُراً، والعبد من كان ابوهُ عبداً.

قلت: وما ذنب المولود عبداً لأن أباه كان عبدا هو لم يملك حق الخيار بين العبد والحُر ليختار أن يكون عبداً، الى متى سيبقى العبدُ عبداً؟

نظر لي نظرة اشمئزاز، قال: وما شأنك انت وشأنهم؟

قلت: أبحث عن إجابة لسؤالي فحسب.

قال: ولمَ تسأل؟ جعلتكُ تُكمل تعليمك في المدارس الدينية ثُم الالتحاق بكلية الشريعة الإسلامية في الجامعة، وفي النهاية تأتي لي بهذا سؤال! اين تعليمك في الفقه؟ ألم تقرأ عن فتوحاتنا الإسلامية؟ ألم تَطلع على امجادنا في إذلال بلاد الكفر والكُفار وجعلهم يدخلون الإسلام؟

قلت: نعم، اطلعت.

قال: عجيبٌ امرك، ألم تعلم ان غنائم فتوحاتنا كان فيها أسرى يتم اسرهم بحرب الفتوحات؟ هؤلاء هم من أصبحوا فيما بعد إتمام الفتوحات عبيدا وجوارٍ لنا.

نظرت لهُ لثوانٍ متواصلة، لم أجبهُ بشيء، بقيت أنظر الى حجم الغضب الذي يخرج من عينيه وهو يتحدث. كان يُريد مني إجابة لا تكون وفق ما يعتقد لينهال عليّ بالضرب، استأذنت منه لأتركه، اصطنعت امراً لأنشغل به واذهب إليه، ظلت نظراته تُلاحقني وأنا أهم بالوقوف، بدأ يشعر بأنني لست على شاكلته، لكنهُ تأكد من ذلك بعدما ارسل شخصاً ليسأل عني في الجامعة، عَلِمَ بأنني لم اكن مواضباً على الدوام وكثير التغيُب عن الحضور لبعض ايام الأسبوع، لم اناقشهُ أكثر، منهجه كان يُحرم النقاش، لكنهُ كان غاضباً أكثر من أي مرة اراه فيها، في كل مرة ينهي نقاشه معي ليقول بأن الجدال عقوبةً من عقوبات الله في الأمة، مُستنداً لقول النبي: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”[18] ثُم يُعزز تحريمهُ للنقاش وهو يسرد الآية: {ما ضربوه لك إلا جدلاً}[19]

صَببتُ غضبي ليلتها في البحث في فهرس كُل كتاب يدلني على حُجية العبد والحر، اردت ان اعرف علامَ استندوا في ان يكون ابن العبد عبداً، نحن في القرن التاسع عشر الميلادي والثالث عشر للهجرة، هل تبقت فتوحات؟ لمَ لا يزال في منزلنا جواري وإماء؟ من أين اتوا بهن ولا توجد فتوحات؟ الغالبية في بلادنا تعتنق الدين الإسلامي، فمن اين مصدرهن؟

ابي يكذب …

من اجل نزواتهِ يكذب، لا أرى أمر الجواري منتشراً بين مدن (افغانستان)، المُباح مُباحٌ لهُ فحسب، يتعاملون معهن بسرية، كل مرة نذهب فيها الى قريتنا يتعامل أبي في شرائهن وبيعهن، لمَ لا يظهر للعلن؟ لمَ لا توجد أسواق لبيعهُن كما في السابق كما كان يفعل المسلمون حين يشتروهن ويكشفون عن اجسادهن امام عامة الناس؟ لمَ مدننا تخلو منهن في اغلب البيوت؟ لمَ هُن متوافرات في منازل الزُعماء فقط؟

ابي يكذب …

بعدما قررت ان أضع ثقتي في (القرآن) وان أضع كل الشك في كتب الفقه، بحثت في كل الفتوحات، وجدت الآية: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَهَا}[20] وجدتُ الله يأمر المسلمين بأن يكون وضع الاسرى بين امرين، بحسب ما جاء بتفسير (الطَبري) الذي اقنعني تماماً، تفسيره جاء وفقاً لما ورد في النص وحرفياً دون ان يضيف حادثةً رويت عن فلان أو يعطي تفسيراً لمفردات النص بحسب هواه، فسر الامر قائلاً: “إما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل”[21] ولكن، من اين جاءت فكرة (الإماء)؟ بعد البحث ايقنتُ بأنها جاءت من تُراث مَن حَكمنا والذي سُميّ فيما بعد (بالفقه)، لم ينص القرآن على وجودهن، اشار الى وجود (مِلك اليمين) فحسب، إلا أن نزوات من كان على شاكلة أبي فسر الامر (بالإماء) ليُلبي كل ما تفرضهُ عليه نزواته، ليعيش كما تعيش الخيول في الإسطبل متى ما توافرت شهوته يمارس الجنس، لا يكبتهُ شيء، بل بالعكس، وفر العديد من الحُجج والبراهين كي يضفي السند الشرعي لممارسة البَغاء، ليظن حين ينتهي من ذلك انهُ سيؤجر بالحسنات على ما فعله، لأنهُ طبقَ شرع الله الوارد إلينا من كتب الدولة الاموية.

يسألُني قريني: ما الفرق بين (مِلك اليمين) و(الإماء)؟

اجبته: فسر الفقهاء الآية: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن و… وما ملكت أيمانهن}[22] بأن مِلك اليمين هي تلك التي يتم اسرها في الحرب لتبقى جارية وتلد الجواري والعبيد، تغاضوا عمّا جاء في الآية: {فما الذين فضلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم}[23] تجاهلوا بحكُم عطشهم الجنسي بأن (مِلك اليمين) هو كل من وقع تحت الرعاية والإشراف والمسؤولية، ولشدة هذا العطش لم يكتفوا بامتلاكهن فحسب، بل تجاهلوا كل قيد أو شرط يحدُ من هذا الامتلاك، كأن يكون عدداً محدداً أو منحهُن بعض الحقوق، أو جعل امتلاكهن وفق قيودٍ أو التزامات، جعلوهن كأدوات المنزل، يمكن لأي منهم امتلاكها لمجرد انهُ شارك في الحرب، له ما يشاء منهن دون ان يرتبط بعقد، ما عليه سوى ان ينظر الى بطنها ان كانت حاملاً منه أم لا، فإن كانت كذلك فأنهُ لا يهبُها ولا يبيعهُا ولا يُعيرها لأحد، فهذا الشيء مسموح لطالما انه سيدها ومالكها، وإن لم تكن حُبلى، فالأمر جائز.

يمتلك الفقه حُكماً لوجود (مِلك اليمين) ورد في أقوال السَلف، جاء في كُتب السيرة بأن (عمر بن الخطاب) قال بأنه كان جليس النبي وطلع عليهم رجل بشعر اسود وثياب بيضاء اتضح فيما بعد بأنه (جبريل) يخبرهُ بأن من امارات الساعة (أن تلد الأمة ربتها)[24]، وبغض النظر عن وجود (جبريل) ومجيئهُ بهذا الشكل، إلا أنهم استندوا لوجود (الأمة) بهذا الحديث كما استندوا لوجود كلمة (نكاح) تسبق (مِلك اليمين) ليكون مُباحا، مُتغاضين عن ان كلمة (النكاح) في القرآن ذُكِرت للزواج المشروط بعقدٍ وليس (النكاح) هو مجرد الاتصال الجنسي والدليل في الآية: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}[25] كيف يمكن ان يكون (نكاحا) دون مساس! تغاضوا ويتغاضون كلما مس الامر مُتعتهم التي جاءت تجارة مع الله، وما انفع هذه التجارة، الربح والأجر فيها وفير وضمان الجنة أكيد والتمتع بدار الفناء مُباح، في اعتقادهُم الحياة دار فناء ولا يتشبث فيها إلا امثالهم، شرطَ الله عليهم في القرآن بأن يكون تعدد الزوجات بسبب، والسبب وهو ان يتزوجوا بُغية إيواء وتربية اليتامى، شرط عليهم بأن يكون هنالك يتامى كي يتمتعوا بأكثر من زوجة، ولكنهم فسروا الامر كما تحلو الحياة لهم، وبحسب حُب التملك المُتوارث منذ العهد الاموي، صار لهم مثنى وثلاث ورباع دون قيد أو شرط، اقتطعوا الجزء المفيد من الآية وتركوا الباقي.

يقول قريني: هنالك قواعد للغة العربية أنت غير قادر على فهمها بالكامل، الفقهاء فسروها بأنها كذلك، لمَ انت معترض؟

أجبته: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا}[26] لم يثير اهتمامهم وجود أداة (إلا) أو أداة (أو) لتخيرهم بين الزواج بواحدة أو (ملك اليمين)، مُتعة الزواج بأربعة اعمت بصرهُم وبصيرتهم.

رددتُ مُجدداً، أبي يكذب …

ليس هناك في الدين جوارٍ ولا عبيد، أنهى الإسلام العبودية حال انتشاره وساوى بين السيد وعبده، إلا أن هذه المساواة لم تعجب من أسَس (فقه الإسلام) ووضع أول كتاب سيرة نبوية بعد أكثر من (130) عام من وفاة النبي واتلف كل ما كُتِبَ أو شُرِع أو أُرِخ من قبل كي لا يعارض ما أراد لهُ ان يكون بمفرده، كل ذلك كان في عهد الخلافة الاموية.

ابي يكذب …

يكذب كي يكون برفقتهن بتلك الغِبطة المملوءة بالنشوة، كم كنتُ أكره سماع صوته وهو يذهب معهن للاغتسال، اتخيله عارياً بينهن دون ان يعترض عليه أحد، يتوجب عليه ان ينجب الكثير من العبيد والجواري كي يخدموه ويخدموا أولاده من بعده، هكذا تقول نساؤه الأربعة اللائي في بيتُنا.

يقول قريني: اهدأ، لا تصرخ.

قلت: لم أكن اصرخ، كنت أفكر فقط.

قال: كلا، كنت تصرخ.

قلت بإنفعال: قلت لك لم أكن اصرخ، كنت أفكر فقط.

قال: كنت تصرخ، انت لا تشعر بنفسك حين تسرد افكارك، انت ترجع من هذا العالم الى العالم الذي كنت تعيش فيه في الدقائق التي تستذكر فيها حياتك.

اجبتهُ بغضب: لمَ لا تلتفت لي؟ أريد معرفة من أنت.

قال: ليس الان.

تركتهُ غاضباً وسرتُ بعيداً عنهُ بخطوات، لم تُوقفني السلاسل التي تتشبث بيدي، سرتُ باحثاً عن إجابة لكل سؤال في خاطري، اين انا؟ ولمَ انا هنا؟ وكأني أتجول في متجر عمر الصِبا، أختار ما يتسنى لي من الذكرى، اسردها وأنا أتألم، أتألم كثيراً، لا ألم فاق حدود التعبير غير ألم فراقها، حبيبتي، تلك التي تُغرد كُل عصافير الوطن حال استيقاظها عند الصباح، تتساقط مليارات النجوم لو وضعت الكُحل حول اجفانها، تمايُل خصرها فيصلاً بين الهداية والغواية، نظراتُها معطف أضعهُ على كتفي في الليلة الماطرة، اسيرُ بخطواتٍ نحو التيّه وأنا افتقدُها، كنت برفقتها اجمل، كنت املك الدنيا بما فيها، كنت في غنى عن كل من كان عليها، اختصرتَ الخَلق بأكمله حين خُلقت، جميلة وجمالها يأسرُ كل ناظر، اسير بخطواتٍ تفتقدُها، كانت برفقتي كل يوم، قضيتُ برفقتها أياما لم اقض كمثلها أيام، كنت برفقتها انسانا، قبل ان يقتَلُ فراقُها ذلك الانسان الذي عاش بداخلي؛ قبل أن يشنُقني غريباً فكُّ ضفائرِها ولفها حول شرايين قلبي، ما كان لي من وقت إلا واختليتُ بها من جور ما حولي، ما فكرتُ لبرهة من الزمن إلا وكان ذِكرُها جُل افكاري، شَعرها وهي تدفعهُ وراء اكتافها، وهي تلتفتُ لي حين احدثُها، لحظاتٍ تُثير الدهشة، النظرُ لملامِحها وهي تتحدث كالنظر لأمواج بحرٍ وهي ترتطم، رؤيتها عند الصباح كانت كأبيات شعرٍ في حب الوطن لشاعرٍ فلسطيني يُندد بمن احتل وطنه.

كان مُجتمعنا آنذاك يحترم الحُب، ولكنني نشأتُ في منزلٍ ينعت الحُب بشتى الالفاظ النابية، يختم كلامهُ حين يتحدث عنه بوضع الحكم الشرعي له (بالمُحرم)، كانت الحياة جميلةً جداً بغض النظر عن وجود أولئك الإسلاميين الذي فهموا بأن (التدين) هو الابتعاد عن الحياة وليس الابتعاد عن المُحرمات، كنت أعيش حياتين مُنفصلتين في آنٍ واحد، كان هناك ثمة حاجز اجتازهُ كل يوم وأنا ذاهب لألتقي (بمريم)، أعيش في بيئتين، احداهما اراها في البيت والأخرى كانت تحيط بي في الخارج، كانت أوسع منها لأنها ضمن عالم يواكب الحداثة ويواصل ما توصل إليه العالم من ثقافة وعلوم، كنتُ حلقة وصل بين بيئتين تبغض احداهما الأخرى، كان مُجتمعنا في الاغلب، اما (شيوعي) يدّعي التطور، مستعد للدفاع عن أي فكرة لمجرد انها تُعارض دين (الإسلام)، وعلى أهبة الاستعداد لمُعارضة أي فكرةً أو مبدأً اقرهُ (الإسلام) ضمن مبادئهِ، وأما (إسلامي متشدد) يُعارض اي فكرة لمجرد انها لم ترد في كتب السلف الصالح، يتبنى أي مبدأ ارتبط انبثاقهُ مع قصةٍ لأحد الصالحين، لتكن على شكل (حديث نبوي)، يُدافع ويتبنى أي فكرة تكاد من شأنها ان تهد اركان الإسلام جمعيها في إيمان شخصٍ لمجرد انهُ يقرأها، كما حصل معي. ينتابني ندم كبير لأني اشتركت في رجم زانية بحسب حكم الرجم في (الإسلام)، ظل سوط الندم يؤلمُني فأمكثُ طويلاً بين طيات الكُتب لأجد دليلاً واحداً يبرر فعلتي برجم تلك الزانية التي لم تفارق دمعتها ذهني، بحثتُ كثيراً بين طيات الكُتب وبقيتُ طويلاً مُعلقاً بين رأي مؤيدٍ ومُعارض، حتى وجدتُ ضالتي حين قرأت في (صحيح البُخاري) ما رواهُ عن (عمرو بن ميمون): “رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ”[27] عرفت وقتها أن حد الرجم جاء استنباطاً من حادثٍ وقع بين قردة!

بين هاتين البيئتين، حائرٌ الى أيهما انضم؟ ايهما اتّبع وكلاهما خاطئ؟ كيف انفصل عن بيئة أبي وهو بهذا الحجم من النفوذ والسلطة، كيف لي ان اسير عكس اتجاهه؟ اضحيت جسداً بلا روح، قلباً بلا نبض، اضحيتُ بلا مأوى لولا وجود (مريم) في حياتي الشاردة، كانت ملاذي الامن، كنتُ اراها خِلسةً لئلا يراني أبي أو أحد أولئك الذين يقَبّلون يده بعد كل صلاة، كنت اخرج من البيت الى الجامعة وأنا اشعر بأن هنالك من يترقبني، تُراودني كثيراً فكرة أن أبي وضع عليّ رقيباً يتتبع افكاري، لم اعد التحق بمحاضرات كلية الشريعة الإسلامية، تركت الدوام بشكلٍ تام، قررت ان اواجه أبي بذلك، ولكن انتابني الخوف حين فكرت في القول لهُ صراحة بأنني لم اعد أريد دراسة.

مرت الايام ولم يقلُ لي أبي شيئا، اذهب الى الجامعة لألتقي بمريم واجلس برفقتها لساعتين أو أكثر ثُم أعود ادراجي وأنا امتلك من الفرح ما لم تمتلكهُ الأمهات الاسرى لحظة إيقاف الحرب، كنت اقطفُ لها الورد في كل صباح، وفي كل مرة أرى غصن الورد يلوي نفسهُ لحظة اهدائي إياه لها، لينظر لها، لهُ الف عذر لئلا يُصدق جمالها، كان كذلك وهو بين يديّ وأنا اقدمهُ لها، تبتسم وتأخذهُ مني، فأرى الغصن الصغير يرفع رأسهُ الى الأعلى، تتجه الوردة نحوها لتبقى مفتوحة (التُويِّج)، تنظرُ لوجهِها الحَسِن، انهارٌ من الرقة تنحدر من اطراف مبسمِها، تمنحني وافر الامل وأنا جليسُها وسط هذا المجتمع المُتباهي بالجهل والفقر والعبودية، كانت أول مَن يبتسم بوجهي الكامد المُلتحي، لم التق بغريبٍ قبلها إلا ونظر لي بهاجس الخوف، (الغريب) هو كل من لم يكُن على شاكلتنا، مُلتحٍ وذا رداءٍ إسلامي، ابتسمَتَ لي لتمنحني موانئ الطمأنينة لترسو عليها سُفن امنياتي، لطالما كانت لي المرفأ كلما هربت بقارب العقل من واقعٍ جاهل، احتوتني وأنا تائه بين الشك الذي زرعته بأفكاري تلك الكُتب والبحوث التي كانت في القبو وبين الإيمان السادي الذي اورثهُ لي أبي بحكم تعاليمه وسوطه.

وقتما جلسنا برفقة بعض للمرة الأولى، كنت في حيرة من اين ابدأ، الحيرة الأكبر كانت كيف ابدأ، كيف لي ان ازيح كل ما أنا على هيئتهِ لأعرفُها بنفسي التي باتت ضد نفسي، ظلت تُحدقُ في عيني وأنا أحدثُها، لم تنظر الى أي شيء من حولي سوى عيني، منحتني القوة لأفصح عمّا اريد، منحتني الأمان، منحتني حياة، تلك الحياة التي كنت اتوق لعيشها بعيداً عن الكبت والوجع، اردت ان تكون شريكتي في العقل والروح لتكون بعدها زوجتي، وليس آلة انجاب مكَسوةٍ بالسَواد، كانت بانتظاري، في ذلك المكان الذي اخبرتُها بأنني سأنتظرُها فيه، احمل بيدي كتب الفقه لأتظاهر لو صادفني احداً من اتباع أبي بأنني ذاهب كعادتي الى الجامعة، جلست بقربها، نظرتُ الى عناوين الكتب ثُم وضعتها بقربي، خجلت منها كما اخجلُ من مظهري وقيافتي التي لا تواكب الموضة، لأنها بُدعة، كنت ضئيلاً امام اناقتُها.

قلت لها: أنا (أمين).

قالت: مرحباً بك، انا (مريم).

ثوانٍ من الصمت بيني وبينها جعَلتَنا نتبادل الابتسام، حركت رأسها بشكلٍ مائلٍ ثُم ابتسمت ابتسامةً اشد اثارةً من تلك التي سبقتها، كررت ابتسامتها فأصاب مجرتنا الكونية صُداعٌ شديدٌ، تبعثرت خطوط الزمن وارتطمت الكواكب بعضها ببعض، شِكل وجنتيها وهي تبتسم أوجد اختلافا كبيرا في حساب السنين الضوئية بين كوكبنا وكوكبٍ اخر لم يُكتَشف بعد، اختلف الزمن الذي سبق ابتسامتها عن الزمن الذي تلاه، جعلتني ابوح بكل ما اردت كبتهُ عنها، وجدتُ نفسي أحدثها بحُريةٍ تامة، لم تقاطعني، انصتت لي وكأنها تريد ذلك، لم تكن مُرغمة على شيء، لم تكُن لي الاعجاب كما كنت اكُن أنا لها، ولكنني فرضتُ ذلك بعدما مَنحتُ لها الثقة لأخبرها عن اسراري، حدثتُها عن كل ما كان يخيفني، عن كل ما كنتُ أخاف ألا اخبر بهِ احداً، وحين انتهيت، اخبرتني بأني انسانٌ جديرٌ بالاحترام والتقدير، انهيتُ حديثي دون أن اتغزل بها، وهذا اجحاف صريح بحق جمالها، أنا حتى لم اخبرها عن اعجابي، حدثتُها مُنتهزاً لكُل لحظة مرت عمّا ظل جاثماً على صدري طيلة تلك السنوات، لم اعلم السبب، هل كان شعوراً لا ارادياً مني لأوّضح لها بأنني لستُ كما تراني؟ ام حِقداً مني على واقعٍ يُحيط بي وما إن وِجدتُ فرصة لأشفي غليلي منه؟ لمَ فعلتُ ذلك؟ لم اعلم السبب، كان لقاؤنا مُثمراً، بَقيَت بصمات جمالها على روحي ولم تزل الى الان، أتذكر ملامحُ وجهُها جيداً، انصتت مريم لروحي قبل الانصات لكلامي، هكذا قالت لي حينها، قالت لي ايضاً انها التقت الشخص الذكي المُناضل من اجل مُعتقداته، ولَكم يعجبها الرجُل الذكي.

على مَر لقاءاتنا، حدثتها عني وعن نشأتي المُظلمة والمحشوّة بالجهل والخُرافات، حدثتها عن أبي فتعجبت كثيراً حين عرفت بأنني أبن الزعيم الديني الكبير (حميد الله)، تعجبت من نفوري من هذهِ السلطة التي نمتلكها والتي تفوق قوة سياسيي الوطن، تعجبت من نفوري من الجاه والمال اللذين في حوزتنا، تعجبت من كُرهي الشديد للترف الذي نحن عليه، حدثتُها عمّا نملك من ارواحٍ بشر، بأيدينا نحييهم وبأيدينُا نمُيتهم، تَعجبَتَ لأنها من (كابل) ومسألة (العبودية) ليست بالشيء المُعتاد، إلا ما ندر. (العبودية) تُمارس بالخفاء، ولكنها في العلن في القرى البعيدة عن مواكبة التطور، القُرى والمدُن من غير العاصمة لم تكُن عِرضةً للحداثة والتطور، مُنغلقة على الدوام على ما يسردهُ زعيمها الديني أو القبلي، يفعلون ما يقولهُ تجنباً للسخط في الدنيا والآخرة، حدثتُها عن القبو الذي كنتُ ادخله خِلسة، حدثتُها كيف كنتُ اراه كنزاً لا ينضب، مكان غيّر مجرى حياتي، منحني عقلاً بدل ذلك العقل الذي خطفهُ أبي مني، منحني حُب القراءة والبحث والإطلاع كي اسير مرفوع العقل، منحني العلم الذي مكنني من أن اواجه به خالقي حين يُحاسبُني عمّا فعلتهُ في حياتي، اواجه حِسابي وأنا لستُ خائفاً، قدر تعلق الامر بأيماني بديني ومعتقداتي وكل ما ارتكبتهُ بموجبِها.

كان القبو عبارة عن صناديق مملوءة بالأوراق، بعضها مُتسلسل وبعضها الاخر مُبعثر، قمت شيئاً فشيئاً بجمعهُا وقراءتها، احتوى في الغالب على كُتبٍ علمية كُتِبَ عليها (ممنوعة من النشر والتداول)، احتوى ايضاً على مقالاتٍ وبحوثٍ تناقش احكام الدين وتُقارنهُ بالعِلم وبأدلةٍ غريبة، الغريب أكثر، ان جميعها لا تحمل اسم، لم اعلم وقتها من كتبها؟ ولمَ هي في بيتنا ونحن اسرة متشددةً لدين الإسلام؟ هل يعلم أبي ما يوجد في هذا القبو؟ أم انه لا يعلم؟ احتوى منزلنا الكبير على الكثير من الغرف والخدم والحرس، لم تكن ولادتي فيه إلا أنني نشأتُ فيه بعد أن انتقلنا للعيش فيه، سمعت انهُ كان لعمي، ذات مرة رأيت لهُ صورة صغيرة بين طيات كتابٍ أخذها أبي مني عنوةً، لم يكن يسمح لنا بالسؤال عنه، لم يخبرنا عنه شيئاً.

كان (جدي) أحد كبار قبيلة (البشتون) في عموم (أفغانستان)، إلا أنه وفي أواخر أيام حياته تمكن من عزل جزءٍ من قبيلتنا عن بقية قبيلة (البشتون)، وبعد وفاته تولى أبي شؤون القبيلة ولكن على نطاقٍ أوسع، تمكن أبي من أن يُنشئ تكتلاً دينياً كبيراً لا يضم قبيلتنا فحسب، بدل ضم الكثيرين بحكم وحدة الدين الاوسع نطاقاً من وحدة القبيلة، أصبح فيما بعد أحد اكبر زعماء (أفغانستان) ومن القلائل الذين يمتلكون زمام عقول الناس وأرواحهم وأملاكهم، اصبح لهُ حرسٌ على أبواب المنزل وخدمٌ وإماءٌ وجوارٍ وزوجات اربع. حين كنتُ في مرحلة الصِبا، كان أبي مُتزوجاً من اثنتين، تزوج بعدها أثنتين ليستنفذ كل ما منحهُ الرب من رخصة في التمتع الجنسي وإنجاب اكبر عدد من المُغيبين عن الواقع بحُكم عظمتهُ ومكانتهُ، كان يفكر في كيف لهُ ان يضع خليفتهُ من بعده، كنتُ انا غايتهُ الوحيدة وشغلهُ الشاغل لأنني كنت اكبر اولادهُ من الذكور، يمتلك صبيين اخرين كانا يصغُراني ببضعِ سنوات، كان لهُ الكثير من البنات حتى بات غير قادراً على حفظ اسمائهن، كنتُ في عُزلةٍ نسبيةٍ عن كل هذه العائلة الكبيرة، بعدما اضحت القراءة منفذي الوحيد للطمأنينة، الاجتهاد في دروس الجامعة كان ذريعتي، كان أبي من اشد المُرحبين بهذه العزلة ظناً منه بأنها كانت تصنعُ مني رجل دين قَيماً مثله، ارادني ان اتقن الفقه وكل ما قالهُ الفقهاء لأكون سندهُ في تخدير قبيلتنا واستمرارهم في اتباعنا اتباع الاعمى، من اجل ان ننعم بالجاه والمال أكثر، ومن اجل ان تكون تجارتنُا تجارة مع الله، وما اعظمها من تجارة، كانت تجارة (بالله) وليست معه.

سمعتُ قريني ينادي عليّ سائلاً: الى اين تريد ان تصل؟

انتبهت لنفسي وانا قد ابتعدتُ عنهُ والسلاسل تنحدر مني إليه، طالت بي الذكرى وأنا سائرٌ باتجاه العدم، أنظر الى ما حولي من سهلٍ اخضر وسماء واسعة، لا شيء استدُل بهِ عن هذا المكان، السكون ذاته، وكأن لا يوجد هُنا سوانا، أنا وقريني، اراهُ يجلس كما كان، عدتُ اسير باتجاهه وأجيبه …

ناديتُهُ: لا تخف، أنا لا أحاول الهرب.

قال بنبرةٍ ضحك: لن تتمكن من الهرب، لا يوجد مخرجٍ من هنا.

اجبتهُ: وكيف لي ان أبحث عن مخرج وأنا مُكبلٌ بهذه القيود، أنا لا أتمكن من الابتعاد أكثر.

قال: تستطيع ان تبتعد قدر ما تشاء، لن تمنعك السلاسل، ولكنها ستعيدك الي.

قلت: أنا آتٍ إليك.

قال: لم أسألك عن طريقك، سألتُك عن أفكارك؟

وأنا عائدٌ باتجاههِ، أرى بُركة ماء تبعدُ عني قليلاً، كان لونها كاللون السماء، زرقاء صافية، لا يحيطها أي شيء ولا يشوبها شيء، اتجهتُ نحوها ببطء افكر في إجابة لسؤالهِ وأنا أرى الدين كـسِلالٍ تحمل فاكهة التفاح تُقدم الى الإنسان، سِلالاً احتوت على تفاحاتٍ فاسدةٍ واخرى طازجة، تُقدمها لك اسرتك بعد ولادتك، المشكلة انك لا تعرف الفاسد منها والطازج فكلاهُما مُتشابه اللون والمظهر، لن تتعرف على الفاسد منها إلا بعد أن تتذوقُ منها، إن حالفك الحظ ولم تكن من نصيبك تُفاحةً فاسدةً فأنك ستبقى مُعافى، تلتقط تفاحتك من سِلال اسرتك ونشأتك ولن تعرف الفاسد منها الى أن تُقرر المُقارنة بين أنواع التفاح في كُل السِلال، سيخبرك رجلُ الدين بأن الفاسد منها هو الصالح، سيخبرك إن تسممَت بأنهُ ليس تسمُم، سيخبرك بأن وجع التسمُم ما هو إلا سمو الروح في أشد حالات التقوى، لكنك ستعلم الحقيقة، وقتما تُعلم بأن هُنالك أشياءً كثيرةً غير (التُفاح) تصلح لأن نقتات عليها، إن لم تُقدم الاُسرة الدين للإنسان، فسيُقدمهُ المجتمع عند نشأته وفق شِكل سَلّة التُفاح خاصتهم، في بعض المجتمعات المتحضرة يقدم لك المجتمع السَلّةُ بأكملها لتختار بحسب ما يملي عليك عقلك، لتختار الدين والمذهب الذي يوافق إيمانك وما تعتقد، اما في مجتمعاتُنا المُغلقة والرجعية، فإن الابوين والقبيلة هما من يمسُكان بهذه السلّة ويمُدان أيديهُما فيها ليختاروا لك منها تُفاحةً تُشابه التُفاح الذي اعتادوا عليه، المُشكلة أنك ستتذوق التفاح لأول مرة وستعتاد على تناوله، لن يحق لك اختيار، إن كانت فاسدة أو لم تكن، لن يُغريك طعم الصالح منها مهما تذوقت بعد نشأتك، وإن حاولت تذوق غيرها فأنهم سينهالوا عليك بشتى الالفاظ الذي تتسبب بالسخط المُجتمعي.

يسألني قريني: وهل تمكنتُ من أن تختار تُفاحتك؟

قلت: لا اعلم، أنا لا اذكرُ سوى ما حدثتُك عنه.

أنظرُ الى السماء لثوانٍ مع الصمت، اتنهد، استدركتُ قائلاً: لطالما كانت شخصية وأفكار (ابن رشد) تُعجبني، كنتُ اتبناها واروم لنشر تعاليمها قدر ما استطعت وأنا أقرأ له، كان يتبنى فكرة فصل الدين عن العلم، تحدث عن الحقيقة المزدوجة قائلاً “إن العلم يستخدم أدوات العقل والمراقبة والدين يعتمد على الإيمان الغيبي فلا يجب أن يحاول أحدهما إثبات الآخر أو نفيه وإن للدين حقيقته وللعلم حقيقته فلا يجوز الخلط بين الحقيقتين” كان شخصيةً عظيمة، اثار انتباهي ودهشتي في تعريفهُ للشريعة قائلاً: “الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، والظاهر منها هو فرض الجمهور، والمؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله”[28] وجدتُ في القبو عدة مؤلفاتٍ له، وضّحَ لي الكثير من المفاهيم التي لا اكاد افهم تعريفها، قرأت ما كتبهُ عن (الروح) وعن (معرفة الحقيقة) فهو يقول بأن (الروح) منقسمة إلى قسمين: الأول شخصي يتعلق بالشخص والثاني فيه من الإلهية ما فيه، وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروحا إلهية مشابهة، أما (معرفة الحقيقة) فهي نوعان ايضاً: الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة.

يقول قريني: أتعلم ما جناهُ (ابن رشد) من افكارهِ هذه؟ تم اتهامهُ بالكفر والإلحاد.

قلت: نعم، تم تكفيره وحُرقت كتبه وتم نفيه، انفاهُ (أبو يوسف يعقوب) إلى (مراكش) حتى توفي فيها عام (1198م).

يسألني قريني: كيف كانت تُفاحتك؟ هل كانت صالحة أم فاسدة؟

انتابني الصمت لثوانٍ، أنا لا أتذكر شيئا أكثر مما قُلت؟ وكأن ذاكرتي توقفت الى هذا الحد، ما الذي حصل بعد ذلك؟

سألتُ قريني بنبرة التعجُب: لما لا أتذكر المزيد؟

قال: اقترب وسأمنحك المزيد من الذاكرة.

قلت: وهل بإمكانك ذلك؟

قال: بالتأكيد، انت هُنا لتتذكر، لُتعيد فهم وإدراك كل ما فعلتهُ.

وقفتُ على طرف بُركة الماء، انحنى رأسي وأنا أجلس القُرفصاء، اخذتُ بيدي القليل من الماء، رفعتهُ الى الأعلى لينزل على شكل قطرات مُتتالية في البركة، نظرتُ الى الدوائر التي تصنعُها القطرات حال مُلامستها للماء، سألتُ نفسي بغرابة، لمَ لا اشعرُ بالعطش! لمَ لا اشعر بالجوع! حتى أنني حين كنتُ اسير لم اشعرُ بأنني ابذلُ أي جُهد! لا اشعر بالتعب! وأنا أنظر الى دوائر الماء وهي تتشتت رأيتُ وجهي ففزعت، تقربتُ من الماء بعدما ركد بشكلٍ تام، تفحصتُ وجهي فهلعتُ راكضاً نحو قريني، وأنا اركضُ، رأيتُ نفسي في غُرفةٍ بيضاء، توقفت عن الركض لأنظر الى اركان الغرفة فوجدتُ نفسي بذات المكان، على السهل الأخضر الساكن، واصلت الركض فوقفت خلف قريني، لم أتمكن من التقرب منهُ أكثر …

وبرعشةِ خوفٍ هائلة، سألتهُ: لمَ أنا بعمر الشباب؟ لمَ وجهي بهذا الشكل وكأن لي عشرين عاما؟ أنا تجاوزت الخمسين!

صمتَ ولم يُجبني، كررتُ سؤالي بصوتٍ عال وبهلعٍ أكبر …

أجابني بصوتٍ هادئ: أنت ميت.

 

[1] القرآن/سورة الزلزلة/6

[2] انظر: القرآن/ سورة الاسراء/101

[3] الأكمه: هو من وُلد أعمى.

[4] انظر: القرآن/ سورة المائدة/110

[5] الاناجيل الأربعة هي (انجيل متى/انجيل مرقس/ انجيل يوحنا/ انجيل لوقا).

[6] تتمثل اوجهُ الشبه بالصوم وتحريم لحم الخنزير وتجنب النساء فى المحيض والتطهر من الجنابة ورجم الزاني والزانية والصلاة في اتجاه بيت المقدس.

[7] انظر: صحيح البخاري/ كتاب مناقب الأنصار/ الجزء الثالث/ رقم الحديث 3674

[8] انظر: مسند احمد ابن حنبل/ شرح حمزة احمد الزين/ الجزء 16/ دار الحديث-القاهرة/ الطبعة الأولى/ 23236

[9] عاش (البخاري) بين (194 – 256 هـ) أي ما بين (810  – 870 م) مع الإشارة الى أن وفاة النبي كانت سنة (11هـ).

[10] القرآن/سورة النجم/4,3

[11] ورد في صحيح البخاري/كما أخرجهُ (ابي داود) بسننه (كتاب الادب) /4932

[12] المسجد، لغة، هو موضع السجود الجماعي. أما المسجد الأقصى، فقد كان معروفا في موضعه الحالي من قبل اليبوسيين والعرب واليهود والمسيحيين، ومن بعدهم المسلمين. وبحسب الحديث الشريف فقد بناه سيدنا آدم بعد بنائه للمسجد الحرام بأربعين عاما (البخاري عن أبي ذر الغفاري). وبحسب الروايات التاريخية، كان سيدنا إبراهيم عاد وعمره حوالي العام 2000 قبل الميلاد، ثم تولى المهمة ابناه إسحاق ويعقوب عليهما السلام من بعده، كما جدد سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام بناءه، حوالي العام 1000 قبل الميلاد. وتذكر بعض الروايات أن داود بدأ بناؤه وأكمله سليمان. وتم العثور على آثار تعود للفترة اليبوسية (3000 ق.م) في أسواره تدل بشكل قاطع على أن الأقصى كان قائما حتى قبل بعثة إبراهيم (1900 ق.م) وموسى وعيسى عليهم السلام. (المؤلف)

[13] انظر: كتاب (السيرة النبوية لأبن هشام)/ الجزء الثاني/الصفحة 46 – انظر ايضاً: كتاب (البداية والنهاية) لأبن كثير/ الصفحة 283

[14] القرآن/ سورة البقرة/197

[15] القرآن/ سورة الأعراف/31

[16] القرآن/ سورة الاسراء/27

[17] الشرطان هما ان لا يفصل بين الـ(لا) والفعل المضارع شيء وان لا تُسبَق الـ(لا) بـ(إذا) الشرطية.

[18] رواه الترمذي/ الحديث رقم 3253  – و ابن ماجه/ الحديث رقم 48

[19] القرآن/ سوة الزخرف/ 58

[20] القرآن/سورة محمد/4

[21] انظر: كتاب تفسير الطبري/ تفسير سورة محمد/ الصفحة 155

[22] القرآن/ سورة النور /31

[23] القرآن/سورة النحل/73

[24] انظر: كتاب (جامع العلوم والحكم) لأبن رجب الحنبلي/2001 / الصفحة 93-94

[25] القرآن/ سورة الأحزاب/49

[26] القرآن/ سورة النساء /3.

[27] انظر: صحيح البُخاري/ رقم الحديث 3849

[28] انظر: كتاب (الكشف عن مناهج الأدلة) لأبن رشد/ الصفحة 99

The post فصل من رواية “مُتلازمة بروين” appeared first on الرواية نت.

الشفق الأبيض لمحمود عمر خيتي

$
0
0

قصة العاشق الذي في قلبه مدينة.. قصة الصراع بين الخير والشر الذي ينتهي ببزوغ الشفق الأبيض هي الرواية الثانية من الثلاثية الشامية المؤلفة من ثلاث روايات بعد الرواية الأولى المُعنونة بـ “حبتان من القمح ثنائية الحب والحياة في مدينة الأنبياء” للأديب المُبدع والشاعر الدكتور محمود عمر خيتي.. رواية قوية عميقة الدلالات إنها سيرة روائية من القرن التاسع عشر لطبيب عاش لحماية مدينته ومساعدة فقرائها يسرد فيها الأحداث التاريخية العامة والأحداث الاجتماعية الخاصة..

تتميز بأسلوب فيه حبكة بوليسية يجذب القارئ ليعرف ما سيحصل و فيه من العبقرية ما فيه فعند رسمه لبعض الشخصيات تظنها شخصية بسيطة يتابع الحديث عنها في معرض الأحداث وعند النهاية وانكشاف حقيقتها تُلاحظ كيف أدت دورا”ما في الرواية مما يدفعك من تلقاء نفسك لتقرأها مرة ثانية لتعرف كيف رسم الشخصية من البداية.. ولتحتفظ بالحكم المُعلنة وغير المُعلنة وفلسفة الحياة التي كان يمدنا بها الكاتب من خلال القصص التي يحكيها بطل الرواية الطبيب حسام لابنته هاجر قبل النوم..

رواية مُتقنة بكل تفاصيلها ومحتوياتها فيها رسالة عظيمة لايعرفها إلا من قرأها ..

“انا لست بيضاء ولا سوداء ولارمادية ولا صفراء أنا غابة تتنفس عطر الألوان تحت رهام مطر يعشق الأغصان والألوان والأزهار..أنا هاجر ”

وأختم بقول الطبيب حسام :

“ما أطول الطريق حين تشتد الحاجة إلى الغاية.. ليكن قلبك عالما”كبيرا”يتسع لمن يحتاج إليك.. إن لم تكن مثل نحلة فكن مثل زهرة “

The post الشفق الأبيض لمحمود عمر خيتي appeared first on الرواية نت.

قدس الله سري لمحمد الأمين بن عمار.. حياة البرزخ

$
0
0

“كل بقاء يكون بعد فناء لا يعول عليه، وكل فناء لا يعطي بقاءً لا يعول عليها “، بتلك المقدمة المأخوذه عن أبن عربي أحد أشهر المتصوفين قدم الجزائري محمد الأمين بن عمار روايتة “قدس الله سري”، ومن لا يتوقف عند هذه المقدمة ولو قليلاً لن يفهم كنّه الرواية ولا حتى غايتها، انها عالم بطل الرواية في طريقة الى الله واكتشافه لاسرار الحياة والموت، العشق والهجر، المعتقد والأصل، لدرجة ان كاتب الرواية محمد الأمين في حديثه معنا يقول “بعد أن انتهيت من كتابة الرواية امتلأت روحي بفكرة ان الحياة ليست سوى رحلة وستنتهي لذا لا حاجة للتشبث بتفاصيلها” .

الرواية تتوقف طويلاً عند فكرة الموت وحياة البرزخ الفاصلة ما بين الحياة والموت التي كانت ومازالت موضوع شك،  فهل يشعر الموتى  بها فعلا أم لا، فلم يمت أحد حقيقة وعاد ليحدثنا عنها،لكن نائل بطل الرواية فعلها رحل وعاد مرتين  ” حملت على الأكتاف لأوضع وسط بستان من أجل صلاة الجنازة، اصطف الرجال ومن خلفهم النساء يرقبن الطقس المهيب، تقدم الإمام ورفع يديه وكبر”.

تنقسم رواية قدس الله سري التي نشرتها دار الوطن اليوم إلى أربعة فصول، الفصلين الأولين حول نائل الذي يروي قصته منذ البداية حتى النهاية، وادريان الفرنسية الرومية التي باعت جسدها مجبرة تارة وراضية مرات أخرى، ثم هربت برفقة زوجها الى الجزائرهرباً لتعيش مغامرة جديدة، وهي السيدة التي ستعبر روح نائل وقلبه وستشعل جمرة حبه لدرجة سيتخلى فيها عن عقائدة وأفكاره ويقرر الارتباط بها ، بينما الفصلين الأخيرين وهما الأقل حجما فيدوران حول “الردة والبرزخ”.

الرواية لا تتوقف فقط حول العلاقة  الدنيوية ما بين نائل وأدريان، بل  تتجاوزها لما هو أبعد، انها علاقة المواطن الجزائري بالفرنسي المحتل وما يحمله ذلك من أختلاف في الثقافات يتبعه بطبيعة الحال اختلاف في المذاهب والعقائد، اضطرمعه الجزائريين للعيش لسنوات جنباً إلى جنب مع الفرنسيين لا بصفتهم أخوة بل مستعمرين، يقول نائل الذي التحق لفترة بالمدارس الفرنسية ” كنا نتحدث عن إله واحد ولكن بمواصفات متنافرة، فإلهي كان واحداً لا شريك له، أما إلهها فكان يوكل مهام النجاة والهداية الى مريم أو ابنها، المعلمة ماري بال في مدرسة  شالون كانت تعمل جاهدة لتسفه معتقداتنا”.

في الحقيقة كل شيء في الرواية يلتبس بنقيضة، الاستسلام للموت والرغبة في الحياة، الشفقة أو الشعور بالوز والقرف، فنائل الذي قبل وبوعي منه اقامة علاقة مع زليخة اليهودية التي غادرها زوجها هارباً، دون أي حسبان أو حتى شعور بالذنب، توقف ملياً وتعفف عن فعل ذلك مع ادريان الرومية الفرنسية الهاربة من زوجها بكل تلك الأوزار التي كادت  تجعله يمسكها من ذراعها ويرميها للكلاب، لكنه أراد ان يلبثها ثوب البراءة رغم كل ذلك الوزر،  لأن الوزر وجد ليقترف وليوجد من يسامح عليه ويتجاوزة ولهذا سمى الله نفسه الغفور الرحيم، هل كان ذلك لانه أحبها حقاً وتوقع انها أحبته، هل لآنه هو العربي الفقير الُمسَتعمر الذي استطاع ان يتزوج فرنسية وأن يُسكنها في كوخه الفقير لتأتي الناس فتشهد ذلك الانتصار، أم أننا فعلا شعوب وقبائل تسن القوانين وتضع المحرمات وقت تشاء وحين تشاء، “الله ما أعظمه، حين سحرتني زليخة وأمها، عرفت ما معنى أن تعبد الله، ألا تنساه لمجرد أنك تعتقد انه نسيك أو لم يعد يهتم ”

لا يكتفي الكاتب بتلك المتناقضات بل انه يعاقب بطله على فعل الحب غير المشروع وغير المقبول، فيجعله يقع في مغبات الحزن والمرض الذي يشبه السحر، فيحوله الى ميت لا محاله، لدرجة انه يموت مرتين ولكنه يعود للحياة ” في البرزخ أدركت ما معنى أن يكون للواحد إله يتشبث به كي لا يموت إنسانا ويبعث حيواناً أو مسخاً كتلك المسوخ التي تحفل بها حكايات العصاة والزنه والملاحدة”.

ورغم ان نائل نسخة من والده سالم بن سليمان الذي أحب أمه وتزوجها بعد أن قابلها في ضريح إبراهيم البحري، الا انه النسخة السيئة منه فوالده كان من الرجال القلائل الذين تجاسروا وأعلنوا رفضهم للوضع الذي قيدهم فيه الفرنسين بينما هو إنقاد لهم،  وهو عكس أدريان الفرنسية التي وقع في حبها فقبل ان يتخلى عن كل عقائده ومبادئة ليتزوجها رغم كل ماضيها القذر، بينما هي قبلت بتغير معتقدها لانها بكل بساطة ليست تلك المؤمنة التي تفخر بتعصبها لانتمائها الكاثوليكي، ولكن حين تعلق الأمر بحريتها تخلت عنه ورفضت ان توقع ورقة اشهارها الاسلام، الوثيقة الوحيدة التي ستمنحه الحق في العيش معها بعد ان هربت من زوجها الفرنسي.

انها رواية تدخلنا الى عالم الأولياء وسحرهم، فلولا نانا الضاوية لما تخلص نائل من سحر اليهود عليه، انه عالم القرب من الله والخوف منه ، كل ذلك عبر لغة شاعرية اشبه ما تكون بتصويرية ومشهدية .

قدس الله سري هي الرواية الثالثة للكاتب الجزائري الشاب محمد الأمين بن عمار بعد روايته “عطر الدهشة وروح الوجع”، ونال عنها جائزة الطاهر وطار في العام 2017.

الرواية نت

The post قدس الله سري لمحمد الأمين بن عمار.. حياة البرزخ appeared first on الرواية نت.

صدور رواية “مامبا سوداء”للسوداني أسامة رقيعة

$
0
0

عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، صدرت للروائي السوداني أسامة رقيعة رواية جديدة بعنوان “مامبا سوداء”

وواضح أن عنوان هذه الرواية مكتظ بالإحالات، فهو يثير في ذهن القارئ تساؤلات حول الدلالة الفنية والثيمية لهذه “المامبا السوداء” (وهي أطول الأفاعي الإفريقية، وأسرعها وأكثرها فتكا)، وذلك من جهة أن حضورها في العنوان يستدعي إلى مخيلة القارئ صورا ومشاهد لأحداث وتفاصيل مرعبة، وهي ما يمثل أفق توقّعه التخييلي على غرار القول بأن بعض بني البشر، قد يكونون أكثر فتكا وشراسة, بل وأكثر الكائنات توحشا، بما يحملونه في ذواتهم من قدرة على إذاية الآخر ورغبة في جعله يتألّم.فالرغبة بالسيطرة ، وسلب الآخرين أموالهم وحياتهم دون شفقة صفة قد ينفرد بها بعض البشر ويختص بها عن بقية الكائنات.

تدور أحداث الرواية في عالمين مختلفين, هما عالمنا نحن البشر, وعالم الجن الموازي والذي يكاد يتطابق مع عالمنا بقوانينه وشرائعه التي تحكم سكانه, ويختلف بما فيه من غرائب وطاقات وقدرات فائقة, وسحر وشيطانية, وبولوج فرد من الجن إلى عالم البشر تبدأ اللعبة.

في القصر الفخم, قصر زوجها مقصود , وفي غرفتها الخاصة , وبين روائح العطور, وتصاعد دخان البخور, تبدو “ملعوبة” من خلال الأضواء الخافتة , كزهرة اقحوان لا تقاوَم , تتهيأ للقاء “جايكا” الذي يتحَرَّقُ بشغف مجنون لرؤيتها، يتسلل إلى غرفتها من اللامكان, ليغرق معها في طقوس المجون.

مقصود بطل الرواية الرجل الثري, صاحب الأملاك, وابن الأسرة الخيِّرة ذات السمعة النظيفة, ومنذ أن التقى بملعوبة, والتي ستصبح زوجته لاحقا لم يجرب أو يحاول مقاومة غنجها ودلالها وسحر أنوثتها فهو ودونما إدراكٍ منه, وجد نفسه فريسة بين أنيابها, هذه الأخيرة التي كانت قد عقدت اتفاقا مع “جايكا” القادم من العالم الموازي عالم الجن وبما لديه من قدرات سحرية خارقة, للإيقاع بمقصود.

بعد أن تمكنت منه أبعدته عن أسرته, وشيئا فشيئا سيطرت على أعماله وأملاكه, وباتت هي المتحكمة بحياته ومصيره, بينما هو غائب عن الواقع, يتناول الطعام دون توقف, ليزداد ترهلا بجسده وعقله.

إلا أن السحر سيزول عن مقصود, في يوم من الأيام عندما سيغيب “جايكا” وينقطع عن “ملعوبة” وستتكشف لمقصود كل الألاعيب الشيطانية التي كانت قد حاكتها له وسيتبع ذلك أحداث هي غاية في الإثارة والتشويق.

الناقد التونسي الدكتور عبد الدائم السلامي كتب قائلا عن رواية مامبا سوداء ( لقد أجادَ الكاتبُ أسامة رقيعة إدارةَ أحداثها عبر ما تخيّر لها من أبطالٍ بقدرما يختلفون في الأفعال يأتلفون في الأحوال، فإذا الواحدُ منهم مغموسٌ في توتُّرِه النفسيِّ، ومشدودٌ إلى حبلِ قلقِه ومرارةِ عُزلتِه، يَرِقُّ حينًا إلى حدِّ الغباءِ (الزوج “مقصود” والأستاذة “سامية”) ويَقْسُو حينا آخر قسوةَ المَكْرِ (الزوجة “ملعوبة” ورجل الأعمال “آران” والجنيّ البحريّ “جايكا”). وهي حكايةٌ تصنعُ واقعًا متخيَّلاً يوازي واقعَ الناسِ ويعكس منه ما يُخْفونَه عن أنفسهم أو ما يَخافونه عليها من وقائعِ أيّامهم، وفيها حرصٌ على تفكيكِ الأنظمةِ الاجتماعيةِ والقِيَميّةِ الحاكمة لمعيش هؤلاء، ونَقْدٌ جريءٌ لسُلطانِها عليهم.

صدر للكاتب أسامة رقيعة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع:

رواية (اللحن المفقود) 2015

رواية (الوتر الضائع) 2012

رواية (أحداث منتصف النهار) 2012

رواية (زهور البلاستيك) 2012

نصوص سردية (خواطر وترحال) 2010

مجموعة قصصية (ذكريات مدام س) 2010

The post صدور رواية “مامبا سوداء” للسوداني أسامة رقيعة appeared first on الرواية نت.

أشعر وكأنني أحمل مبضع جرّاح أشرّح به النفس البشرية

$
0
0

حين أتحدّث عن تجربتي الأولى في الكتابة الأدبيّة أرى نفسي مباشرة أمام حقيقة أن الكتابة الأولى على الورق هي الكتابة العاشرة في الذهن وربما أكثر. الكاتب في حالة دائمة من التفكير سواء دوّن ذلك أم لم يفعل، ثم تأتي الكتابة على الورق ثم النشر ليتجسّد ذلك مكثّفًا. ومما لاشك فيه، أنه ليس هناك من كتابة أدبية تنطلق من العدم، القراءة شرط للكتابة وهذه القراءة برأيي تنقسم إلى أنواع ثلاث قراءة الأدب وقراءة حيوات الآخرين وقراءة نتاج الفن.

أقول دومًا إنّ من يكتب كتابا واحدا جيدا فهو بالتأكيد قرأ عشرات الكتب الجيّدة، فالموهبة وحدها غير كافية ولابد من قراءات تصقلها. فالكاتب الجيد برأيي هو قارئ جيد بالضرورة. قال طه حسين: “ليس كل قارئ بقارئ”. وأعتقد أن القراءة التي تتجاوز السطور إلى ما بينها من أحاسيس عصفت بالكاتب حين كتب هي القراءة التي تحفز على ممارسة فعل الكتابة، بل هي التي تجعلنا لا نقاوم إغراء بياض الورق لفضّ بكارته بالحبر. حين كتبت، شعرت بتأثير عدة روايات لا سيّما أعمال ديستويفسكي التي لامست شغفي بعلم النفس والفلسفة (مجال دراستي الجامعية) وحين كتبت روايتي (إيميسا) الصادرة عن دار التكوين بدمشق أبريل المنصرم 2019، شعرت بتأثير أعماله، فصرت حين أحلل شخوص روايتي وأصفهم وأدرس أفعالهم وردودها، أشعر وكأنني أحمل مبضع جراح أشرّح به النفس البشرية بغرض الكشف عن تناقضاتها ومفارقاتها ومحاولة فكّ شيفراتها وألغازها.

متى كانت شرارة الكتابة؟

رغم تأثير عدد من الأعمال الأدبية، غير أن فتيل الكتابة أشعله عملٌ أدبيٌّ واحد بلحظة غير محسوبة وغير متوقعة ربما، وهذا ما فعلَتْه رواية خالد الحسيني (ألف شمس مشرقة)، كنت بصدد إعداد دراسة أكاديمية لنشرها في كتاب حول الحرب في سورية ومسبباتها وعلاقتها بمفهوم القوة الناعمة، لكن الرواية غيّرت مسار عملي حينها وفسرّت لديّ واقعيًا مقولة نيتشه: “ما كُتبَ بالدم يُقرَأ بالدم” فكنت لا أقرأ فحسب وإنما أعيش في سطوره وبينها. وأعتقد أن هذا يعود لأسباب عديدة منها أن روايته تناولت الحرب في أفغانستان حيث استطاع في توصيفه لها وتحليله حيثياتها وشخوصها أن يعبر بي إلى هناك ثم يعود بي إلى الحرب السورية التي أحياها لحظات قراءتي له، فرأيت النار والدمار والتدمير والتخريب وشممت من كلماته رائحة البارود التي التقت بما تنشقته سنوات هنا على أرض سوريا، التفجيرات التي دمرت مدنًا، القذائف والصواريخ كنت أسمعها يوميا فيأتينا صداها من صفحات الحسيني، المهجّرون ذكروني بمهجّرين، المصابون الذين بكيتهم، الفقد، جدلية الحياة والموت، جدلية الوجود والعدم، النسبي والمطلق، ضرورة الالتفاف لحل المشكلات بهدف النجاة كل ذلك عشته أيام الحرب ومجددًا في صفحات الحسيني.

وهكذا بلحظة واحدة تفجّر بداخلي بركانٌ من الأفكار والشخوص والأحداث وشعرت كما يقول بوكوفسكي أن الفكرة “انطلقت كما الصاروخ ويجب أن تُكتبَ” كل ذلك صرخ بي: “اكتبي!” وأذكر تماما أنني تواصلت مع أحد الأصدقاء وهو كاتب قصص قصيرة فاستغرب جرأتي، وقال إنه يكتب منذ سنوات ولم يتجرأ مرة على كتابة رواية لأن كتابة الرواية أمر مهيب، لكنني لم أنصت إلا لصوت داخلي يحثني على عدم مساءلة رغبتي في الكتابة. وهكذا أمسكت بقلمي وحدث سيلٌ من أربعمائة صفحة من الدموع والضحك والصراخ، ووددتُ حقيقةً، وأعلم أنّه محالٌ، أن أمتلك الوقت والقدرة الجسدية والنفسية والعصبية على البقاء مع قلمي والورق إلى أن أنهي الرواية لأنها حاضرة في ذهني كلها، إلى الحدّ الذي كنت أبقى فيه ساعات طوال دون أن أشعر بمرور الوقت. كان صداع الفكرة يؤلمني ولا يشفيه إلا رؤيتها متجسدةً على الورق أمامي، حينها فقط أتنفس الصعداء وأبتسم.

علاقتي بشخوص الرواية:

الطريف بالأمر أن ما كنت أسمعه على لسان كتّاب وروائيين حول حالة التوحّد بشخوص رواياتهم وعشقهم لأبطالهم وحنقهم من آخرين وحزنهم على موت شخصية، كلّ ذلك كنت أظنه ضرباً من التهويل والمبالغة إلى أن عشت ذلك تماما فصرت أحادث أم هشام (الشخصية الأحب إلى قلبي في الرواية) وأشتم ماهر (شخصية أخرى) وأواسي سلاف (شخصية ثالثة) على جرحها وأشعر بهم جميعا حولي حين أخرج وحين أشاهد التلفاز وفي العمل وأثناء قيادتي سيارتي، وفي المطبخ حين أطهو. الغريب حقا أن الكاتب يرسم المصائر ويخلق ويعدم ويحيي ويميت ينحتُ شخصية لئيمة ويغضبه ذلك ويرسم أخرى مسالمة فيتعاطف معها، الكاتب أشبه بالإله وأحيانا كما الشيطان الذي يوسوس للشخصية ليتصاعد الحدث فيأتي الانفراج. الكتابة فعلُ خلقٍ بلا شك.

حين أنهيت كتابة الرواية، كانت المفارقة في سعادة ممزوجة بغصة، لقد انتابني حزن شديد حين ودّعت شخوصي. بكيت وكنت أظن أن هذا لن يحدث، لكني بكيت بحرقة. من جهة أخرى تملكتني سعادة كبرى برؤية وليدي الأول وقد تجسّد أمام عيني وعلمت حينها كم هي عزيزة بنات الأفكار التي لا تشبه في خصوصيتها حتى الأبناء لأنها ثمرة محض فردية، لا يشاركنا في تكوينها أحد.

قراءة الواقع

ثمة قراءة أخرى ضرورية لفعل الكتابة، ألا وهي قراءة الواقع. حيوات الآخرين تشكّل مادةً غنية للكتابة ولذلك أرى أنّ الانخراط في الواقع شرطٌ آخر لا محيد عنه للكتابة الصادقة على نحو لا تعود معه العزلة التامة المطلقة بكافية لممارسة فعل لكتابة. المشاهدات شرط آخر هام للكتابة ففي كل ما نشاهده من أعمال درامية ومسرحية وسينما وأي نتاج جماليّ، كل ذلك يصب في العمل الأدبيّ فيجعله أكثر اكتمالا ونضجًا. اعتزال الناس والضجيج وعوامل التشتيت الذهني أمور هامة إذ لا بد من الغياب أو الغروب على حد تعبير نيتشه، ليثمر ذلك عن عودة الغارب عودةً جمالية غنيةً إلا أن إنضاج بذرة الكتابة يتطلب تجارب حيّة وكأنها الماء الذي يرويها فتنمو شيئا فشيئا بما يتلاءم مع خصوصية العصر. وبرأيي الكتابة المعزولة تماما عما هو حيوي كتابة غير مقنعة أو على الأقل ستندرج تحت عنوان اليوتوبيا أو الخيال المحض والصدق هو البعد الذي يكون معه الأدب شجاعًا جريئًا لا سابحًا في ملكوت الفكرة وحدها.

وفي الختام أقول إن السؤال الذي شغل الكتّاب والنقّاد: لماذا نكتب؟ الإجابة عنه إجابة عريضة وواسعة جدا، فالكتابة صرخة احتجاج وتمرد، والكتابة حلم يتحقق في تجسيد الفكرة، في الكتابة يهرب كلا الكاتب والقارئ إلى عوالم لايمكن أن نسافر إليها إلا عبر الأدب، هذه العوالم الجميلة بما تخلفه في النفس، يقول القارئ: كيف عرفت أنّ هذا ما أعانيه؟! وكيف عبّرت عما بداخلي بكلماتك؟ والكاتب يعلم أنه نطق بلسان كثيرين فالكتابة تطهّر حقيقيّ لا يشبهه فعل آخر. بالإضافة إلى ذلك فالكتابة حدثٌ مفاجئ كما الحب يخطفك ويعصف بك عصفًا، سيلُ لا سبيل إلى وقفه أو ردّه، والتردد هو العدوّ اللدود للكتابة، فالشجاعة أهم أدوات الكاتب إذ أن الفكرة تعشق العقل المقدام دون تردد، وحين يجبن عن كتابتها ستفارقه إلى غير رجعة، ولن تزوره مجددًا.

 

*روائية سوريّة

الرواية نت – خاصّ

The post أشعر وكأنني أحمل مبضع جرّاح أشرّح به النفس البشرية appeared first on الرواية نت.

“حارس سطح العالم”جديد الكويتية بثينة العيسى

$
0
0

“تدور أحداث هذه القصة في زمنٍ ما في المستقبل، في مكانٍ لا يحدث ذكرهُ أيّ فرق، لأنه يشبه كلّ مكانٍ آخر”.

رواية “حارس سطح العالم” لـ بثينة العيسى هي ديستوبيا مستقبلية، تحدث في زمن ما بعد سقوط الديموقراطيات، والثورة ضدّ الثورة المعلوماتية، وتقنين التقنية، ومنع الانترنت.

في ذلك العالم، تعمل الحكومة دائبةً من أجل إسعاد مواطنيها، من خلال تخليصهم من فوائض المشاعر والرغبات والأحلام والخيالات، وإبقائهم على جادة “الواقعية الإيجابية” بتفريغهم من كل “مُمكناتهم الوجودية” و”رغباتهم غير المعقولة”؛ حيث توجد ثلاث رغبات مشروعة في الإنسان؛ “الرغبة في الانتماء، الرغبة في العمل، والرغبة في الإنجاب”.

تقوم فلسفة الدولة الجديدة على أنَّ “المخيّلة هي جذر كلّ الشرور”، وعليه، تبدأ الحكومة في التصدّي لتجليات المخيلة في جميع وجوهها، منذ الطفولة وحتى الأدب!

بطل رواية “حارس سطحِ العالم” هي رقيب كتبٍ، استيقظ من نومه ذات صباح، ليجد نفسه وقد تحوَّل إلى قارئ، هاويًا في شَرِكِ المعنى، متورطًا في أسئلة الوجود، وجائعًا إلى الروايات الممنوعة على نحوٍ لا يُمكن إصلاحه.

The post “حارس سطح العالم” جديد الكويتية بثينة العيسى appeared first on الرواية نت.

واسيني الأعرج يستعيد ذكرياته الشاميّة

$
0
0

 تدور معظم روايات واسيني الاعرج حول قصص قد تبدو واقعية رغم عوالمها الافتراضية الذي يخيطها الكاتب ويستوحيها، وهي الى جانب ذلك روايات لا تخلو من نقد سياسي أو حتى اجتماعي لفترة تاريخية معينة أو لشخص ما، إنه كاتب استثنائي فهو جزائري من جيل الخمسينيات ولكنه يتقن اللغة العربية كإتقانه للغة الفرنسية وربما أكثر، يملك لغة شعرية وبصرية غاية في العذوبة، يستطيع أن يدخلك الى عالم روايته فتعيش مع أبطالها وتتأثر لآلامهم، وتحلم معهم، استطاع أن يقتنص جائزة كتارا (المؤسسة العامة للحي الثقافي في قطر) عن روايته مملكة الفراشة التي تحولت لاحقا إلى مسرحية بعنوان (الحرب الصامته).

قاربت غزارة الإنتاج الروائي لدى واسيني الاعرج أن تكون مهنة، فكيف استطاع عبر كل تلك السنوات ورغم الحياة ومغرياتها، أن تبقيه نهما يأتينا في كل عام برواية، يقول واسيني الأعرج المقيم حاليا في فرنسا، إنّ المسألة مسألة تنظيم وقت وماذا نريد من هذه الحياة، وكيف تكون فعَّالا لتستحق في النهاية لقب روائي أو كاتب، بالنسبة لي جزء كبير من وقتي أسيطر عليه على أعتباري رجل (بيتوتي)، لا أخرج من المنزل الا  يوم الجمعة للتدريس في الجامعة وهو يعتبر يوم طويل لكنه المورد الاساسي الذي أعيش منه، او أخرج في  مواعيد محددة لحضور فيلم سينمائي او أي نشاط  ثقافي، حتى زيارة المقاهي ومجالسة الناس قضية حسمتها سابقا، إلا في حالات نادرة ولمواعدة  صديق عزيز أو مجموعة اصدقاء، كما انني استقطع من ساعات نومي لصالح الكتابة، فمثلا بدلا من أنام السبع ساعات اللازمة للإنسان، أكتفي بخمسة منها، حتى انني في سفرياتي الطويلة، الطائرة تصبح مكتب عمل، اعرف ان الحياة جميلة وتستحق أن تعاش، ولكننا يجب ان نعطيها حقها بما اننا موجودون فيها،  أضافة الى سبب آخر هام، فأنا كنت أظن أنني سيد زمني ووقتي وحتى جسدي، الى ان تعرضت لأزمة صحية كادت تودي بحياتي، فشعرت ان المسافة بيني وبين الموت هي مسافة الحياة، يجب ان اكون فعّالا أنجز العديد من المشاريع (كالكتابة والتتدريس والسفر) وكل ذلك بالنهاية يحتاج لتنظيم في الوقت.

وواسيني الاعرج المتحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة دمشق ،أو كما يشاء أن يسميها (الشام)  لديه ذكريات كثيرة حول تلك المدينة التي عاش فيها في فترة السبعينيات، حيث التقى بالعديد من الكّتاب والادباء الذين أثروا حياته المهنية لاحقاً وكان لهم الدور الكبير في تكوينه، يقول عنها “سوريا عزيزة جدا عليّ فهي ليست فقط جزءا من ذاكرتي وإنما جزءا من كياني ودمي، وهذه ليست مبالغة مطلقا، اليوم عندما أرتّب تاريخ حياتي أقول إن الجزء الأهم فيها مابين العشرين والثلاثين من عمري كان في دمشق، الثورة الشبابية وعز الانطلاقة والإحساس بالحياة والحب، ولو كُتب لي أن أُؤرّخ لحياتي، ستكون هذه العشر سنوات من أهم عناصر حياتي الثقافية، في الحقيقة بعد أن تخرجت في الجامعة الجزائرية، كنت أبحث عن بلد عربي، للغة العربية فيه وقع خاص، وكانت لدي الفرصة لأحصل على منحة إلى بريطانيا أو باريس، ولكنني اخترت دمشق وكان هدفي الأساسي أن أتعلم اللغة العربية وان التقي بمجموعة من الكتّاب الذين كنت قد قرأت لهم، مثل المرحوم حنا مينه وهاني الراهب واسماء كثيرة أخرى أصبحوا لاحقا أصدقاء لي، والأجمل من كل ذلك ان أغلب الأساتذة في جامعة دمشق كما الدكتور شاكر الفحام رحمه الله عليه وغيره، كانوا أساسا أساتذة في جامعات الجزائر، حيث كانت العلاقة ما بين الجامعات السورية والجزائرية علاقة عميقة، وكنا كطلبة جزائريين نشعر بالراحة الكبيرة، ورغم انني كنت سأنهي الماجستير وانتقل لفرنسا لاتمام الدكتوراه إلّا أنني قررت أن أستمر في دمشق وتخرجت على يد الدكتور حسام الخطيب، ويستطرد  كانت الحياة في دمشق جميلة جدا ورائعة،  ثقافيا وحضاريا، وكان هناك مقهيين أدبيين حينها، النجمة والقنديل في وسط العاصمة، وبدأت تدريجيا أغوص في المجتمع السوري، واسست مع بعض الاصدقاء جلسة أدبية اسبوعية، تدار كل  يوم خميس في بيتي لان ظروفي كانت تسمح بذلك، وبعد ان تزوجت الدكتورة زينب لاحقا أصبحنا نستضيف أسبوعيا كاتبا او كاتبة، ولأن سوريا كانت مركزا للمثقفين العرب حينها فإن الكثير منهم  زارني في بيتي بما فيهم محمود درويش وبعض الكّتاب الهامين من العراق، بالإضافة الى الكاتب حنا مينه صديقي واستاذي، وبعد ثلاثة سنوات اصبح البيت مثل المنتدى الثقافي للأصدقاء العرب والمغاربة، نلتقي ونتناقش في كتاباتنا السياسية والمقالات الصحفية، هذا بالإضافة الى الجانب الانساني فأنا أنجبت ولديّ باسم وريما في دمشق حتى أنني أسميتهما بأسماء دمشقية، وآخر زيارة  لدمشق كانت برفقة أولادي قبل سنة من الأوضاع الصعبة، وهذا النفق المظلم الذي أتمنى لسوريا  أن تخرج منه.

 

الرواية نت

The post واسيني الأعرج يستعيد ذكرياته الشاميّة appeared first on الرواية نت.


أم ماهر.. فصل من رواية “إيميسا”

$
0
0

حمص([1])، شتاء 2018

شهقت أم ماهر حين رأته يقف بباب المطبخ، سقط غطاء الإناء المعدني من يدها فأحدث صوتاً قوياً عند ارتطامه بالأرض، لكنّ سلام لم يبدِ أيّة ردة فعل، وقف تماماً كما اعتاد أن يفعل لسنوات، ذراعاه مكتوفتان على صدره، يتكئ بكتفه على حافة الباب، يميل برأسه قليلاً وعيناه تلاحقان أم ماهر التي تعدّ الطعام بينما يحدّثها عن يومه وجديده، لكنّه اليوم لم يخبرها أي شيء، كان صامتاً، لاحظ اندهاشها حين رأته فبدا مستغرباً لكنه لم يسأل عن السبب وكأنه لم يغبْ عن البيت وعن الوجود وعن حياتهم يوماً!

“كيف؟ متى أأاأ أتيت؟ أنتَ هنا؟ عدتَ يا عيون أمّك؟!” تلعثمت وانعقد لسانها، لم يُجبْها، كان يرمقها بدهشةٍ وكأنّه لا يعلم عمّا تتحدث، بدا الأمر بالنسبة إليه وكأنه كان يغطّ في نومٍ عميقٍ وصحا للتو ليتفقّد والدته في المطبخ، موجودًا وغائبًا بآنٍ معاً، صاحياً وغير صاحٍ، واعياً وغير واعٍ، كانت تتحدث إليه وتناديه فينظر إليها دون أن يجيب، ثم يرفع عينيه عنها وينظر إلى أفق بعيد، سألته عن أحواله وأين أخذوه وما الذي فعلوه به، اكتفى بهزّ رأسه دون أن ينبسَ ببنت شفة. أدار ظهره وهمّ بالمشي، نادته: “هل ستنتظر الطعام في غرفة الجلوس؟ يا ابني قلْ كلمةً واحدةً فقط يا ماما، والله اشتاقت أذني لسماع صوتك يا روحي!” لم يجبْ وكأنه لا يسمع أبدا، أدمى صمتُه قلبَها، وكانت روحها تسيل على كلمة “يا بني”، بكتْ، هرولت إليه تعثرتْ حين علق طرف جلابيتها بأحد كراسي المطبخ حتى كادت تسقط، لكنّها تداركت نفسها في اللحظة الأخيرة وعيناها معلقتان بسلام الذي يدير ظهره لها، كانت تراه ولا يفصل بينهما سوى مترين أو ثلاثة فقط، لكنها لا تصل إليه، ولا تدركه، هرولت وهرولت فبدا المطبخ وكأنه ملعبٌ لا تنتهي مساحته، تهرول دون أن تصل ولا تقطع شبرا إضافياً، فتلهث وتلهث فلا يرحمها الزمن ولا المسافة، قدماها مثقلتان لا تتحركان، شعرت أنها تراوح في مكانها بل وأنها تهرول بالاتجاه المعاكس، فكان يبتعد ويبتعد، وصورته تبهت وتبهت تدريجيا وكأنها على وشك الاختفاء، والأم على وشك الاختناق، خافت، ذعرت، وشهقت شهقت كثيراً أرادت أن تصرخ بأعلى صوتها: “لا لا لا تغب ثانية أرجوك لا تغبْ”، لكنّ صوتها كان مكتوماً.. مكتوماً لا يخرج من حنجرتها التي تختنق رافضةً غيابه والخيبة القاتلة هذه المرة، صرختْ صرخةً ملؤها الألم والقهر والاحتجاج والتمرد هذه المرة استطاعت أن تسمع صراخها قويا مدوّيا وكأن المدينة كلّها تسمعها. يدٌ مسحت على جبينها وخديها بقوة، ضمّها إلى صدره: ” هيا ..هيا ..هوّني عليكِ!، كل شيء على مايرام! كل شيء على مايرام!”

لم تكن المرة الأولى التي زار سلام أحلامها، لكنّها كانت الأقسى، ولم تكن المرة الأولى التي يقتلها حضوره والغياب، لكنّ شيئاً ما أخبرها أن الأمر ليس أضغاث أحلام. لم تكن كذلك المرة الأولى التي يصحو فيها أبو ماهر على صرخاتها ويهدئ من روعها، لقد اعتاد ذلك حتى أنّ الليالي التي مرّت دون كوابيس كانت تعتبر استثناءً يثير تساؤله واستغرابه.

بقدر ما كانت لحظات عصيبةً على كليهما إلا أنها كانت لا تخلو من غبطةٍ مغلفة بالأسى، كان يسعد كثيراً حين يخاطب لا شعورُها شعورَه، بعيداً عن كل الأعباء والمشكلات اليومية والهموم التي تحيق بهما، حين تستنجد به وتنادي: “مراد!” كان يشعر أنها ما زالت، يسرا، الأنثى التي يحبها وتحتاج إليه بقربها، لمسةٌ حانيةٌ، منه وعبارات بسيطة جداً كانت تكفيها لترتاح، أما هو فقد كانت تكفيه الحالة الوحيدة التي تبقت له كي يشعر من خلالها أن الحرب لم تسلبه كل شيء وأن دوراً ما زال يمارسه كرجل.

كان لأبي ماهر جسدٌ ضخمٌ متناسقٌ جميل، حين يستلقي يكاد يملأ السرير كلّه، ومن الصعب أن يظهر لأحد أنه مصابٌ بالشلل، فإصابته أولى سني الحرب لم تؤثر إلا على طرفيه السفليين فقط، فظلت معالم رجولته كما كانت وما زالت، كانت ترى في كتفيه المليئتين العريضتين شفاءً لرأسها المثقل بالهواجس، وفي ذراعيه القويتين اللتين يضمها بهما على صدره كانت ترى أماناً وسط الحروب والأزمات والصواريخ والقذائف، ورغم قوّة واستقلال الأنثى بداخلها، كان يروق لها استسلامها، وترى في ضعفها، هنا فقط قوّة خاصّة. في ليالي الذعر اعتاد أبو ماهر أن يبقي جسده لصيقاً بجسدها، ويشدها إليه بقوّه حين تهمس له: “مراد!”، إلى أن تمرَ الأمور بخير، وغالباً ما كانت لحظاتهما تتوّج ببعض الحبِّ والكثير من الدّفء. ورغم أنّ أبا ماهر كان يعشقها كأنثى، كجسدٍ يغريه ويشتهيه، لا كرفيقة دربٍ وشريكة عمر فحسب، إلا أنّ ممارسة الحبّ الحميمة في ظل الخوف والفقد واليأس تكون أبعد من تشابك جسدين، وأعمق من اختلاط النور بالظلام فيهما ومن خلالهما، إنّ القلق والخيبة والقهر أمور تجعل من ممارسة الحبِّ طقساً مقدساً وعناق أرواحٍ في فضاءٍ عصيٍّ على الوصف. هنيهات تحمل كل التناقضات التي ينطوي عليها زمن الحرب، زمنٌ عنوانه الألم المجانيّ. ساعات بل أيام وسنوات مليئة بالكرب وبالعبث، كلّ ذلك لم يحلْ دون حضور رجولة أبي ماهر وأنوثة أم ماهر على سريرٍ مظلمٍ في منزلٍ مقهورٍ بمدينةٍ حوَّلتها الحربُ إلى مدينة أشباح، مصير أبنائها على كف عفريت والمجهول وحده ما ينتظرها.

وكالسّجين المنتظر النطق بالحكم إما بالبراءة أو بالإعدام، كان انتظار عائلة سلام له، حين انتشرت الأخبار حول تحرير بعض المختطفين في مدينة عدرا العمالية وفي غوطة دمشق قبل أربع سنوات، قرر ماهر، مدفوعاً بالأمل، التقصّي حول أخيه سلام علّه يكون أحد المحررين. في اتصال هاتفي صباحي أخبر أخته سماح أنّه سيقضي إجازته هذه المرّة في العاصمة دمشق للسؤال والتحري حول سلام، حذّرها بشدة أن يبقى الأمر سرّاً بينهما إلى أن يتأكد إن كان فعلاً سلام بين المحررين أم لا. أراد ماهر أن يجنّب والديه ألم الانتظار. “اخترعي أية حجة، قولي إن العقيد لم يوافق على إجازة لي، يجب أن أفعل ما بوسعي، يجب أن أجد سلام! إياكِ أن تقولي شيئاً عن هذا أفهمتِ؟!”

قال بحزم فردّت: “حسناً ماهر بالتوفيق!” أنهت المكالمة وقد استبد بها القلق والترقب، وفي رأسها صورتان تتصارعان: سلام أخوها المختطف، ووليد حبيبها، تحيط بهما عشرات الأسئلةِ التي تجيب عنها أسئلةٌ أخرى إلى مالا نهاية. انتابتها رغبةٌ عاصفة بالبكاء لولا صرير باب غرفة والدتها الذي جعلها تتدارك نفسها، دخلت أم ماهر غرفة الجلوس دون أن تقول شيئاً، تبادلت هي وسماح النظرات حيث لاحظت كلّ منهما التعب والحزن البادي على وجه الأخرى.

“يبدو أنك لم تنامي جيداً ماما! كابوسٌ جديد؟!” سألت سماح.

لم تجبْ أم ماهر مباشرة وإنما أطالت النظر في وجه سماح وكأنها تقرأ صحيفةً، تنهّدت وقالت:

“ما الأمر يا سماح، لستِ على مايرام! ما الذي يحزنكِ، أخبريني؟!” قالت الأم بصوتٍ امتزج فيه الحزن مع الحنان فخرج مبحوحاً مجروحاً، فكان ما سمعته سماح أنيناً لا كلمات.

أرادت التهرب : “لا أبداً، عادي، سأعدُّ لكِ القهوة ماما”.

جاء صوت أبيها وهو يدخل دافعاً كرسيه المتحرك: “أريد فنجاناً أيضاً يا سماح، سادة هذه المرة، ثم اقترب من أم ماهر وهمس: “وزوجتي الحبيبة هي السكّر”.

“أي سكّر هذا يا أبا ماهر؟ أنا أنطفئ. أنطفئ” قالت أم ماهر بصوتٍ خافت.

كانت تلك المرة الأولى التي تشعر فيها سماح بالتهديد. وكأنها طفلة تمسك بيد أمها وفجأة تشعر أنّ هذه اليد ترتخي فاقدةً قوتها المعهودة. لم يكن من السهل عليها أبداً أن ترى أمها واهنةً إلى هذا الحدّ، وكأنّ اليأس بدأ ينال منها. وبينما تحضّر القهوة، سمعت والدتها في غرفة الجلوس تتحدث بصوت هو الحزن ذاته.

“كابوس الأمس لم يطمئنني يا أبا ماهر”.

“وهل سنصدق الأحلام يا يسرا؟ استهدِي بالله ولا تقلقي أرجوكِ!”.

ضعفت سماح أمام اليأس والهمِّ الذي قرأته في صوت والدتها، فلم تستطع كتمان سرّ ماهر: “ماما.. ماما! افرحي قد يكون أخي سلام حياً يرزق، قد يكون بين المخطوفين المحررين” قالت بصوتٍ مضطرب.

خلال ساعات “حرب الأعصاب” كما يسميها أبو ماهر، كانت الأسرة الصغيرة أمام موسمٍ جديدٍ من مواسم الحرب لتحصدَه، المنزل صامتٌ جداً رغم أن التلفاز يعمل، الأب المقعد والأم المنفطر قلبها والابنة التي تساندها، رابعهم يسأل عن الخامس المفقود منذ سنوات، الأملُ حاضرٌ والألمُ يتربّص، الفرحُ محتملٌ والكرب وشيك. عودة سلام التي حولتها الحرب إلى حلمٍ، إن تحقق فسيتيح لروح أم ماهر التي جفّت أن تزهرَ من جديد وإلا فسوف يتجدد حزنها ويستمر قلبها المنفطر في النزف، كم صلّت وابتهلتْ ألا تحمل لها الساعات القليلة القادمة تجديداً لجرحها الذي لم يشفَ. طالت ساعات الانتظار واشتد اضطراب الهواجس داخلها، تأجّج الحريق في قلبها، وكابوس الأمس حضر بقوة.

دخل ماهر من الباب نظر في عيني سماح أولاً، الارتباك والذنب اللذان يأكلان ملامحها، كفاها المتشابكتان المرتجفتان، الطريقة التي جلس بها والداه بترقّبٍ وقلق، الجوّ المريب الذي يخيم على المنزل، كلّ ذلك أخبره أن سماحَ لم تكتم الأمر، انتقل بعينيه إلى أمه التي كانت على وشك الانهيار، هرولت إليه وقالت بصوتٍ مرتجف: “ما الأخبار؟!” لم يطل انتظارها حتى جاءها ردّ ماهر الذي أعلن بداية فصلٍ جديدٍ من الألم.

“لكن ماذا يعني هذا، لا معلومات حوله؟! لا جثة إذن هو حيّ!” تساءلت سماح بارتباك وقلق.

“الأفضل أن تصمتي أيتها الحمقاء!” قال بحنق.

على كرسيه المتحرك، كان مطرقاً رأسه بصمتٍ، غير منتبهٍ لشجار ولديه، أم ماهر التي اعتادت أن تتدخل بينهما لتهدئ الأجواء، كانت شاردةً أشبه بالغائب عن الوعي، عيناها مفتوحتان وكأنها في عالم آخر. سماح التي انفجرت بالبكاء وهرولت إلى غرفتها مغلقةً البابَ خلفها بقوّةٍ، لم تكن مدركةً أن الأصعب من الجراح هو نكء الجراح بعد شيءٍ من التعافي، وأن الأقسى من اليأسِ هو إحياءُ الأملِ ثم قتله ثانيةً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) حمص هي مدينة سوريّة، تعتبر ثالث أكبر مدن البلاد من حيث عدد السكان، بعد دمشق وحلب، تقع على نهر العاصي في سهل الغاب، متوسطة البلاد وواصلة المحافظات والمدن الجنوبية بالمحافظات والمدن الساحليّة والشماليّة والشرقية، على بعد حوالي 162 كم من شمال العاصمة دمشق وهي العقدة الأكبر للمواصلات في سوريا بحكم موقعها، وهو ما أكسبها موقعًا تجاريًا فريدًا، وأغناها بالعديد من المرافق الحيوية والصناعية والتجاريّة؛ فضلاً عن ذلك فإن المدينة هي المركز الإداري لمحافظة حمص. مناخها معتدل غنية بالآثار. أما أصل التسمية، فهو مستمد من اليونانية إيميسا وتعني إلهة الشمس. يبلغ عدد سكانها حوالي مليون ونصف المليون نسمة.

* رواية إميسا صادرة عن منشورات التكوين في دمشق، 2019

الرواية نت

The post أم ماهر.. فصل من رواية “إيميسا” appeared first on الرواية نت.

إيميسا.. في أتون الحرب

$
0
0

صدرت مؤخرا في شهر أبريل الماضي 2019 عن دار التكوين بدمشق رواية “إيميسا” للكاتبة والدكتورة هلا علي من سوريا.

“إيميسا”، الاسم اليوناني القديم لمدينة “حمص” السورية التي تتوضع في قلب سورية، ومنها خرجت ثلاث إمبراطورات ليجلسن على عرش روما، ومن باديتها خرجت السورية” زنوبيا” المتمردة على ظلم وسطوة الإمبراطورية الرومانية. ها هي اليوم تعيد إنتاج ذاتها بأباطرة وإمبراطورات يتخلقون في أتون الحرب التي استهدفت الجسد السوري، كما استهدفت قلبه وروحه و عقله.

تدور أحداث الرواية في حمص بين عامي 2011- 2018 لتكون حمص سوريا كلها. فتجعل الكاتبة من حمص محطة للعبور إلى كل مدينة سورية تلظّت بنار الحرب.

وتحدثنا الكاتبة كيف اندلعت الحرب في ربيع 2011 ومنذ ذلك الحين صارت الأمهات يتوقعن الفقد في أية لحظة وصرن في حالة من القلق الدائم التي ينتج عنها لا منطقية في التصرفات من غضب وظلم وقهر وما الى ذلك. أم ماهر إحدى الامهات التي اختطف ابنها سلام فصارت تقضي نهاراتها متمسكة بأمل عودته ولياليها تحت رحمة الكوابيس حول هذه العودة. ابها الثاني على الجبهات، ابنتها الوحيدة سماح، تفارقها من حمص الى دمشق لتواصل تعليمها هناك حيث الاوضاع الامنية في حمص كانت سيئة للغاية. ظلم الحياة لها لم يمنعها من أن تظلم امرأة أخرى هي أم جميل جارتها في الحي ووالدة حبيبة ابنها ماهر، فها هي تلقبها بالمخطوفة، لأنها اختطفت في مدينة عدرا العمالية، وترفض زواج ابنها ماهر بـ(سلاف) الفتاة الجميلة اللماحة التي كانت بالنسبة لأم ماهر “ابنة المخطوفة”. وفوق ذلك تجبر ابنها ماهر على الزواج بأرملة صديقه سهر. سلاف التي تكتشف خطبة ماهر بسهر صديقتها وزميلة مقعد الدراسة تقرر الانتقام على طريقتها، بالنجاح، فتمارس شغفها في تصميم الازياء مبتدئة بتعلم الخياطة عند أشهر خياطة في حمص، أم هشام التي تحب سلاف وتعجب بذكائها وموهبتها فتتعلق بها وكأنها ابنتها، تكتشف سلاف فيما بعد أن ماضي أم هشام ربما هو سبب تعاطف أم هشام معها فقد كانت لها تجربة خطف في الثمانينيات في حماه.

في الرواية شخصيات عديدة وأحداث متشابكة تعبر عما أنتجته الحرب في المجتمع السوري كشخصية (أبو جميل) والد سلاف الذي لا يرحم زوجته المخطوفة من عقابه النفسي بهجرانها. (حياة) أخت سهر، الشابة التي يموت زوجها غرقا في قارب مطاطي بعد اصراره على الهجرة ورفضها مرافقته فتكمل حياتها بالتفاني في العمل لقتل الوقت والانتظار. (جوان) الكردي المتمسك بوحدة سوريا، وغيرهم.

رواية تسلط الضوء على مجتمع مابعد الحرب وعلى النفس عقب الحروب، وتقول أنّ الشمس لابد ستشرق من جديد كل يوم.

الكاتبة هلا علي حاصلة على إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق عام 2000

وعلى دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من جامعة دمشق عام 2001

وحاصلة على الدكتوراه في علم السياسة من جامعة إيرلانغن نورنبرغ – جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 2009

أستاذ مساعد وعضو هيئة تدريسية بجامعة دمشق

وتعمل حاليا في التدريس بقسم الفلسفة بجامعة تشرين – سوريا

 

The post إيميسا.. في أتون الحرب appeared first on الرواية نت.

«في مصيدة الحب» للكوري دايفيد يوون بالعربية

$
0
0

صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت الطبعة العربية من رواية «Frankly in Love» تحت عنوان «في مصيدة الحب» وهي الرواية الأولى للكاتب الكوري الأصل دايفيد يوون والمترجمة إلى ستة عشر لغة عالمية، نقلتها من الإنجليزية إلى العربية غيلدا العساف.

«في مصيدة الحب» نص في ماهية الحب. تقول لقارئها: أن الحب هو أحد أسمى المشاعر وأقوى العلاقات، يجمع القلوب في عروة من ورود.

أنه الحب الذي تعجز أي لغة في التعبير عنه وإعطائه حقه. إنه فعل تتحرر فيه الذات، وتتناغم الروح مع إنسانيتها. ولكن عندما يسعى بعض الناس إلى فصل هذا التناغم نقع في مصيدة الحب، فيؤسر الجسد وتضمحل الروح.

«في مصيدة الحب»، نرى كيف تُحطم القلوب المُحبة القيود التي تحول دون لقاء المحبين، وتثبت أن التقوقع الإثني وباء يحطم القلوب.

في مصيدة الحب، بعد أن يلتف المحبون على القيود الإثنية يرضخون لها، ولكن عندها تظهر قيود طبقية أخرى. وعندما ينتصرون عليهم يجدون أن هذه القيود قد تركت أثلاماً غائرة أوشكت أن تقطع نياط قلوبهم وتقودهم إلى هاوية لم تخطر ببال أحد.

«في مصيدة الحب»، رواية تزخر بفرح الشباب وعنفوانهم، وتعبّر عن عزيمتهم وإحباطهم، وحلولهم المبتكرة، وتثبت أن لا شيء يقف في طريق حبهم. إنها عالمية بمفهوم القيم والمشاعر، وكوزموبولتنية من حيث الشخصيات.
هذه الرواية، ملهمة للشباب، وتدق ناقوس الخطر للأكثر شباباً، وتثبت لمن هم أكثر شيباً مدى الضرر الذي يترتب عن قمع المشاعر ووأدها.

The post «في مصيدة الحب» للكوري دايفيد يوون بالعربية appeared first on الرواية نت.

النقد كعدوان شخصيّ..!

$
0
0

في واقع الشلل والمافيات الثقافية العابرة للحدود، يتمّ تفسير أيّ نقد على أنّه عدوان شخصيّ، وأنّه نابع من الحقد والحسد والغيرة، في حين أنّ النقد الأدبيّ نفسه يكون مضيعة للوقت حين يتناول عملاً من الأعمال السخيفة التي يتمّ تصديرها وترويجها على أنّها أفضل نتاج في العالم العربيّ، ويتمّ خداع الناس ومصادرة آرائهم بطريقة تسويقية تظهرهم قرّاء أغبياء وساذجين وسطحيّين، إذا لم تعجبهم الأعمال التي يتمّ تسويقها على أنّها علامات فارقة في مجالاتها الأدبية..

والمثير للسخرية أنّ عدداً من الأعمال التي تتمّ ترجمتها إلى لغات أخرى، ترشّح للجوائز ويُحتفى بها من قبل الأذرع المافيوية المتغلغلة في صحافة الآخر، أو يتمّ الحديث عنها من من قبل الآخر من باب التشجيع والتحفيز، كحالة راشد حين يلاطف طفلاً أو غِرّاً، ويخبره بانّه أبدع في كتابة قصّة أو رسم لوحة.. ولكن صاحب البؤس المُترجَم يعتقد أنّ احتفاء الأجنبيّ بعمله السطحيّ مبرّر ليؤكّد للقارئ الناقد أنّه مخطئ بحكمه على نتاجه، وأنّ عليه أن يراجع حساباته، ويكتشف الخلل الكامن في نفسه، وليس في الكتاب البائس الذي لم يقنعه.

لا أشكّ أنّ القارئ الحقيقيّ لا يقتنع بأيّ إيهام، ويمارس حقّه برمي الكتاب الذي لا يقنعه ولا يرتقي لمستوى تأمّله منه، ويلعن كاتبه وناشره والشلل المتنفّذة التي تمارس التضليل والتحايل عليه، وتقوم بترويج بضاعة مفسدة للذائقة والأدب بذريعة التجريب والتجديد وتحت عناوين وشعارات وقضايا مجوّفة من قيمتها..

للقارئ حقوق كثيرة، أقلّها أن يلعن الكاتب الذي أضاع جزءاً من وقته الذي أمضاه بقراءة تهويماته التعيسة..

* * *

تكتسب الكتابة أهمّيّة في مختلف الأزمنة والأمكنة، هي مهمّة الآن بقدر أهمّيتها أمس وغداً، فهي الشهادة الحيّة على الجريمة الماضية المستمرّة بحقّ الإنسان والبلاد معاً، هي الإشعار بالحياة في مواجهة جنون الحرب والموت والتعصّب ودعوات الثأر المستعرة.

الكتابة كالأمل لابدّ أن تبقى حاضرة في كلّ الأوقات، ولولا ذلك لتركنا المجال للعتمة كي تتسيّد وتمضي بنا من هلاك إلى آخر أكثر إيلاماً وتعتيماً.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك

The post النقد كعدوان شخصيّ..! appeared first on الرواية نت.

مساء الخير أيتها الحياة

$
0
0

مساء الخير أيتها الحياة. لقد كذبت عليك حين طلبت منك وقتاً مستقطعاً لكي أعود إليك مكتملة. لقد كذبت لأنّي فعلياً ضللت طريق العودة. لقد كذبت عليك كثيراً خلال السنوات القليلة الأخيرة، قطعت عليك وعوداً لم ألتزم بها. تقلّصت أحلامي وتغيّرت. صرت أضيّع الوقت هباء وأستمع لنصائح الآخرين. تخيّلي – أنا – أستمع لنصائح الآخرين.

هل تذكرين حين كنت مطمئنة لك، حين زرعت لك ياسميناً في شرفتي، واشتريت لك وسادةً جديدة تليق بسباتنا – أنا وأنت. كنت أطلّ منها كلّ يومٍ على أحلامك، فرحةً ضاحكة كمن يعرف بوجود حفل له في الغرفة المجاورة، بينما يحاول الأصدقاء ترك المسألة مفاجأة. كنت أقف عند الباب، أسترق النظر، ولن تصدّقي كم شعرت بالغدر حين أدركت أنّني لم أكن في أحلامك – أنّ ليس لك أحلام.

مساء الخير أيّتها الحياة،. لا قهوة بيننا بعد الآن ولا سرير يجمعنا. لقد أمسكتها تلك الوسادة ورميتها في وجه البائع ولم ألتفت حين ناداني ليسألني ما خطبها. أنت تعرفينني جيداً حين أغلق الأبواب خلفي بسرعة وأركض إلى الأمام كأنّ قطاراً ما بانتظاري. ولكنّي كذبت عليك أيّتها الحياة، ليس بانتظاري أحد. كل ما في الأمر أنّي لا أريد النظر في وجهك. ومهما حاولتِ أن تقنعي نفسك أنّك كنت لطيفةً وصبورة وودودة، لن أصدّقك.

أنتِ لا تشبهينني أيّتها الحياة، تستخفّين بنزقي، لا تصدّقين بكائي، ولا تعترفين بنضجي. هل تذكرين كيف حاولتِ أن تتسلّلي من الباب الخلفي تلك الليلة الباردة ورحتِ تطرقين على بابي لتثيري في قلبي الشفقة. فتحت لك ورحتِ تزرعين نفسك في مساحتي وتدفعينني إلى الخلف. كلّ يوم تحفرين أكثر وأنا أصدّقك. والآن تسألينني لماذا أصبحت ساخرة، أضحك بهستيرية حين تكلّمينني. والحقّ أقول لك الخيبة هي الوجه الآخر للسخرية. أضحك لأنّي لم أعد أشعر أنّي مدينة لك بشيء. يمكنك أن تغربي عن وجهي الآن.

من صفحة الكاتبة على الفيسبوك

The post مساء الخير أيتها الحياة appeared first on الرواية نت.

ملكة “الفوعة”.. تلميذ “بنش”لشعبان عبود.. جرحٌ في جسدِ الزيتون

$
0
0

مَنْ فَتحَ هذا الجرحَ الشاخبَ حقداً في جسد الزيتون؟

مَنْ قطعَ جذورَ التين الممتدّة ما بين قلبي بنّش والفُوعَة؟

أسئلة ٌمن معجم ويلات الحرب السوريّة تحاولُ روايةُ (ملكةُ الفوعة.. تلميذ بِنّش) لشعبان عبود الصادرة عن دار نون4 الإجابة عنها برؤية سردية خلاصتها:

ليست الجريمةَ الأفظعُ التي ارتكبها النظامُ السوري نسفَ مدنٍ بأكملها؛ بحَجَرها وبشرها، وتحويلها إلى أكوام من حطام وأشلاء؛ لكن الجريمةَ الأدهى والأفظعَ والأوجعَ على المدى البعيد هي نسفُ النسيجِ المجتمعيّ السوريّ المتآلفِ والمتعايشِ والمتكاملِ منذ مئاتِ السنين، وتحويله إلى مزقٍ متناحرةٍ ليس على صعيد الطوائف والمِلل فحسب؛ بل على صعيد بُنية الأسرة الواحدة أحياناَ.

ولتقديم هذه الرؤية يرتكز الكاتب إلى نموذج مكاني واقعي من سوريا وهما بلدتا الفوعة (الشيعيّة) وبنش (السنيّة) وهما ليستا متتاخمتين متداخلتين على الأرض ومصدر لقمة العيش فحسب؛ بل يربط بينهما قلوب متتاخمة، متداخلة الذكريات والعذابات والأحلام والمواويل، كما يقول:

“بنش والفوعة لا تشتركان بكروم الزيتون وأشجار التين ودوالي العنب فقط بل كانتا تشتركان بالمواويل والأغاني والحب والتقاء العيون بالعيون على الدروب والأراضي المتجاورة” ص55.

يتكفل بالسرد راوٍ واحدٍ بضمير المتكلم، وهو راوِ متموقعٌ محدودُ المعرفة ينقل من زاوية رؤيته ما رآه وعاشه، وما سمعه في مهجره البعيد في الولايات المتحدة، كما أنه يقاطع بين رؤيته ورؤى الشخصيات الأخرى التي عاشت الحدث ليصل إلى رؤيا شاملة موضوعيّة؛ تُميّزُ هذه الروايةَ عن غيرها من روايات الحرب السورية.

 

البداية (مدخل النص):

 

بدايةُ النصّ مُنتقاةٌ بعناية، وقَصديّة فاعلةٍ في النصّ كلّه؛ لتلعب دوراً هاماً في توجيهه وإظهار مراميه التي تتمحور حول جريمة نسف النظام لفسيفسائية المجتمع السوري.

ولهذا يختار الراوي المغتربُ بعيداً عن وطنه يوماً رمزياً تظهر فيه جماليةُ تلك اللوحة الفسيفسائية؛ يختار يومَ العيد بدايةً لروايته، العيد الذي كان موعداً للفرح وحِضناً لتلاقي الأهل والأحباب والغيّاب وحتى المتخاصمين، وموعداً لزيارة أرواح الأموات، ها هو يعود عليه في غربته ليكون فتيلاً لبركان الذكريات، ها هو يعود صامتاً لا يُقرَع فيه باب لاستقبال زائر، ولا يَفرغُ فيه صحنُ ضيافة أو سكاكر، يعود عارياً من كل فرح، من كلّ معانيه، يعود شرارةً لتفجير آلامٍ وحسراتٍ وذكرياتٍ دفينةٍ معتقةِ الحزن:

هنا في هذه البلاد البعيدة، هنا في الولايات المتحدة لا طعمَ لشيء، لا طعم للفرح في هذه البلاد الرائعة، نحن غرباء ذكريات طفولتنا ومقابر أهلنا ليست هنا” ص5

ومن هذه البداية الموحية بالكثير من الشتات والضياع ينطلق بنا الراوي لسرد حكايته.

 

الحكاية:

 

من دارٍ كبيرةٍ أشبهَ بفندقٍ تُؤجّر بعضُ غرفها لموظفين ووافدين إلى بلدة بنش (السنيّة المذهب) يبدأ الراوي طفولتَه البريئة، وليتعرف في تلك الدار إلى بيئات وأسر من مدن سورية أخرى، وطوائف مختلفة، تربطه وأسرتَه بهم علاقات حبّ ومودّة، ومنهم  “ماجد الصالح” مدرس الاجتماعيات (علوي) من طرطوس وهو “مؤدب وابن عالم وناس” كما كانت تقول أمه، وعلي عباس موظف المساحة في إدلب علويّ من جبلة وزوجته “أم حسين” من إدلب وكان يشرب العرق، ووالده يشاركه سهرته حتى الصباح رغم اعتراض أمه، ومنهم أبو مظهر القرباطي الذي كان يرسل عشيرته من البنات للتسوّل… وباختصار يصف الراوي ذلك البيت بقوله: ” كان بيتنا كبيراً ومثلما كان فيه غرف كثيرة كان فيه أيضاً قصص كثيرة ومرّ عليه أناس رائعون…

وعبر الكروم الممتدة والمشتركة بين أهالي الفوعة وبنّش كانت ملاعبُ طفولته، وخاصة كرة القدم ومبارياتها بين شباب البلدتين، والتي كانت بنظر الأهالي أهم من نهائيات كأس العالم.

وفي ثانوية “ممدوح شُعيب” التي تتوسط المسافة بين بنش والفوعة كان له الكثير من الأصدقاء المشتركين من البلدتين، وكان عشقه الأول “لسلمى” الشيعية من الفوعة التي كانت تبادله النظرات ولم يجرؤ أي منها على مصارحة الآخر بهمسة حب خوفا من العادات، والتقاليد المشتركة بين الطائفتين.

أنهي دراسته الثانوية ورحل إلى دمشق لدراسة الصحافة، يحمل حقائب حنين فيّاض لمرابع طفولته وزملاء دراسته، وأولهم سلمى الفتاة التي ستسكنه عيناها حتى نهاية حياته.

ومنذ خطواته الأولى خارج عالمه (البنشافوعيّ) الذي كانت تحكمه قوانينُ المجتمع والثقافة، والتاريخ، والجغرافية، سيكتشف عالماً مفخخاً بالطائفية تحكمه قوانينُ الفرز الطائفي، وقوانين عائلة الأسد، وحزب البعث. فشباب الفوعة الذين تخرجوا من الثانوية يُقبَلون في الكليّات الحربية، والمؤسسات الأمنيّة، بينما زملاؤهم على المقاعد ذاتها يذهبون إلى الجامعات، ومَنْ لم يواته الحظّ ينتهي به الطوافُ عاملاً في بيروت أو قبرص، أو الخليج، ويكتشف الراوي:

“بعد سن الثامنة عشرة في سورية كان النظام يُذكّرنا أننا مختلفون، وأننا أبناء طائفتين مختلفتين، كان يسدّ الأبوابَ في وجه شُبّان بنش، ويفتحها أمام أصدقائهم من الفوعة ” ص14

وبسبب مقالة معارضة كتبها يجد نفسه معتقلاً في فرع فلسطين، وسجّانُه واحدٌ من زملائه في ثانوية “ممدوح شعيب”.

أنهى دراسته وتاه على أرصفة المهاجر إلى أن استقر في “فيرفاكس” في الولايات المتحدة، ويأتي عام 2011 لتبدأ الثورة التي لا تُصدّق على هذا النظام الطائفي، ولم يكن الراوي يستوعب ما يراه على الشاشات من مظاهرات لما عرفه من بطش ذاك النظام، ولم تمنعه تلك التربيةُ الطائفية التي حاول النظام غرسها من أن يقلّب وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن رفاق دراسته من “الفوعة” ليطمئن عنهم، وخاصة بعد أن حوصروا في بلدتهم، وبدأت الحرب بينهم وبين بنّش، حيث راح أبناءُ البلدتين الذين كانوا” يتبادلون رسائل الحب والغرام يتبادلون قذائف المدفعية، والذين كانوا يلعبون كرة القدم راحوا يلعبون لعبة الكراهية والموت وتحولت الثانوية التي جمعتهم إلى قاعدة قتال” ص 42

وراح يبحث عن سلمى الفتاة التي تسكنه، وعبر وسائل التواصل استطاع الوصول إلى ابنة عمها، وعرف أنها محاصرة في الفوعة، وقد قتل ولدها نور الدين ابن العشرين عاماً، وماتت روحها دونَ جسدِها بموته، ثم يتمكن من التواصل معها بعد خروجها من “الفوعة” وسكنها في اللاذقيّة، وحين بحثا عن مكان للقائهما كانت مساحة الوطن أضيق من أن تتسع لذاك اللقاء فاتفقا على اللقاء في بيروت.

وخلال الرحلة من أمريكا إلى ذاك اللقاء مع “سلمى” بعد ثلاثين عاماً وحرب دامية، أُريدَ منها ألا تبقي رابطاً بينهما؛ يستعرض الراوي مستعيناً بذاكرة بيت أخيه وجيرانهم  -وقد عرّج عليهم خلال رحلته في هولندا-  مشاهدَ مأساويةً مروّعة من تلك الحرب القذرة مزاوجاً بين ما وقع في بنش “السنيّة” والفوعة “الشيعيّة:؛ ليخلُصَ إلى أن أهل البلدتين هما ضحيتان لسفاح واحد؛ ففي بيت أخيه أحمد تتفتح جراح لمّا تندمل؛ ومنها موت طفليه “سارة وبلال” حين سقطت عليهما قذيفة؛ لتمزق مرحهما وضحكتيهما  في أرجوحة أرض الدار قبل جسديهما ؛ وموت “ثائر” ابن شقيق زوجته ولمّا يمض على زواجه عام واحد، ويسرى ابنة أبي فؤاد التي قتلت مع طفليها ولم يجدوا منهم إلا أشلاء لا يمكن فرزها؛ فدفنت في قبر واحد، كما يسترجع الراوي من خلال قصص هجرة أبن أخيه جلال إلى أوربا مآسي النزوح وويلاته، ومن ثم مصاعب لم شمل الأبوين عدا أخته لأنها فوق الثامنة عشرة، وبقائها وحيدة تحت الموت، ثم خروجها مغامرةً وحيدةً بين إيادي عصابات التهريب، ورصاص حرس الحدود، وحيتان البحار التي شبعت من لحم السوريين… …وفي الجبهة المقابلة في الفوعة يستعرض لوحات مأساوية أخرى ومنها موت “نور الدين” ابن سلمى في مرصده المواجه لأهل بنش وقد خرج إليه ذاك المساء جائعاً لأنه لم يكن في البيت ما يأكله نتيجة الحصار المضروب عليهم من ثلاث سنوات ونصف من أهل بنش والجماعات الإسلامية، وحكايات كثيرة عن الخوف والرعب والجوع الذي عاشوه…

وفي هولندا أيضاً يلتقي الراوي بمجموعة من أهل الفوعة الشيعية، وضباطها المنشقين عن الجيش بعد أن حسموا أمرهم، واختاروا أن يكونوا مع ثورة الشعب، وينقل لنا ما يحملون من حكايات عن انضمام شباب الفوعة إلى حراك التظاهرات السلمية بداية الثورة، ومحاولات الشبّيحة من أهل الفوعة تأجيجهم طائفياً، ومضايقتهم، وتهديدهم بالقتل؛ ومنهم العقيد نضال حمود، وولده أحمد الذي كلّفه هذا الانشقاق خسارة ولده وزوجته التي اتهمته بالخيانة، وصهرهم الرائد موسى، ومن خلالهم يستعرض الراوي معاناة الضباط الشيعة الذين رفضتهم الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولم تقبلهم في صفوفها، وبهذا يكون النظام قد حقق ما يريده بأن حوّل الثورة ضده إلى ثورة سُنّةٍ ضدّ شيعة، فوجد هؤلاء الضباط أنفسهم بين نارين؛ نار النظام، ونار التطرّفِ وانتهَوا مرميين على أرصفة المهاجر.

وتنتهي الحكاية بلقاء “تلميذ بنش”؛ الراوي بملكة قلبه ملكة الفوعة، حبيبة الأمس، ثكلى حرب اليوم. بالأمس لم يكن مقعد ملكة الفوعة يبعد أكثر من متر ونصف المتر عن مقعد تلميذ بنش، لكنهما لم يستطيعا قطع تلك المسافة، واليوم يقطعان بحاراً ومحيطات ويجتازان حرباً دموية طائفية ليلتقيا، ويعترف كل منهما للآخر بحبه الذي كان يخشاه، لكن الحرب لم تترك لهما مساحة متر واحد في الوطن يلتقيان عليه، فالتقيا على بحر بيروت ليمسك كل منهما بيد الآخر بلهفة قلب مكتظ بشوق ثلاثين عاماً، لكنه اليوم لم يعد مسكونا بالحب فقط بل بصور للموت قد لا يمحوها من قلبيهما إلا الموت، ورغم هذا استطاع الراوي أن يُخرِجَ سلمى إلى حدّ ما من سواد حدادها، وسماع أغنيات فيروز وليقرر من هذا:

أن الحب يهزم الموت، وأن الإنسان يريد الفرح، ويبحث عنه ولا يقرر الحزن أو يختاره ولا يعيشه إلا مرغماً” ص 87.

 

من رؤيا الحرب السورية إلى رؤيا إنسانية:

 

من خلال تلك الحكاية نتبين تفاصيل الرؤيا السردية التي رصدتها الرواية، وهي تمزيق النسيج المجتمعي السوري من قبل النظام الحاكم بعد تحويلة لخط الثورة عليه إلى حرب طائفية، فـ ” لقد اشتغل النظام عبر أجهزته الأمنية على توتير العلاقة بين بنّش والفوعة عبر مخبريه وعملائه من البلدتين وكان يقمع كلّ محاولة للتقارب بينهما” ص 81.

وكان لاختيار الروائي لبنش والفوعة المتجاورتين تاريخياً دوراً مبدعاً في تقديم هذه الرؤيا، فمن خلال ما حدث بين البلدتين يمكن اختزال ما آلت إليه الحرب في سوريا كما يصرح الراوي: كان شيءٌ ما يدفعني للحديث عن تجربة الحرب بين بنش والفوعة لما تعني لي شخصياً، ولما تمثله من اختزال وتكثيف للثورة السورية وما آلت إليه، ونتائجها الكارثية على الناس العاديين والبسطاء. ص86.

ويمكن القول إن هذه الرؤية ترقى بهذا النص إلى مستوى الأدب الإنساني الذي يشن حربا ضد الحرب، ويرى برؤية موضوعية أن الحرب وبكل أطرافها حرب قذرة ضد البشر، وما يجمعهم من أواصر إنسانيّة، وتتأجج تلك الرؤية في قول سلمى ” أريد ولدي الشهيد لا أريد أن أكون أم الشهيد” ص 97.

وينطلق الراوي من تلك الرؤيا للحرب السورية إلى رؤيا إنسانية بديلة للحرب حين يطرح أن نشتري بثمن الحرب التي تهدم الإنسان وكلّ ما يبنيه مادياً كان أم معنوياً عالماً إنسانيّاً:

“كنت أفكر وأتساءل ماذا لو كنا زرعنا شجراً بثمن الصواريخ والقذائف التي أطلقت في سوريا …؟ ماذا لو عمّرنا بيوتا ومدارس وجامعات للفقراء بثمن الطائرات والبراميل المتفجرة التي ألقيت عليهم؟ ماذا لو زرعنا ورداً في شوارع مدننا بثمن الرصاص؟ ماذا لو أرسلنا الشبان إلى الجامعات العالمية الكبرى بدل ان نرسلهم إلى الموت …” ص 110.

البنية الفنية الروائية:

  • تمنيت مع إعجابي برؤيا النص لو لم يُؤَطَّر تحت عنوان “رواية” فهو إلى السيرة الذاتية أو الروائية أقرب منه إلى الرواية، فالكاتب لم يستطع خلق عالم تخييلي روائي؛ بل ارتكز على الواقع واليوميات مما جعل الكثير من الصفحات أقرب إلى التقارير الصحفية، تطغى فيها النبرة الخطابية المباشرة، والتقريرية أحياناً على الحدث كقوله: هناك عدالة غائبة المجرمون يحكمون …الخ … ص 111.
  • على الرغم من وجود خيط ناظم للسرد هو خيطُ “سلمى” إلا أن الروائي كان من الممكن أن يجعله أكثر تشويقاً وإثارة للقارئ، وكان عليه أن يُنهي الرواية بلقاء الراوي وسلمى ولا حاجة إلى الصفحات التي جاءت بعد ذاك اللقاء، وهي أقرب إلى الخواطر.
  • في النص -على الرغم من قصره /115/ صفحة- الكثيرُ من التكرار لألفاظ وأحداث كان يمكن الاستعاضة عنها بالإشارة إليها؛ كتكرار كلمة بنش في سطور وجمل متتابعة، أو مكان إقامته في الولايات المتحدة، وذكر حادثة مقتل أولاد أخيه بتفاصيلها في أكثر من موقع، وتكرار مشهد دراسته على الدروب بين الكروم.

كما وقع الروائي في الحشو، حيث سرد مشاهد لم تخدم السياق الروائي كتفيصله لمشاهد من طفولته مع أم حسين وصدرها الأبيض، وسائقِ سرمين وزوجته المثيرة…

 

أخيراً:

 

رواية “ملكة الفوعة تلميذ بنش” نصٌ أدبيٌّ يضيفُ إلى سرديات الحرب السوريّة تفصيلاً عميقاً جديداَ غيرَ مسبوق لجرحٍ من جراح تلك الحرب؛ جرحٍ سيشخبُ طويلاً إن لم نعالجه بالحب، حاولَ كاتبُهُ أن يسبُرَ أعماقَه بموضوعيّةٍ وحياديّةٍ وجُرأةٍ، ليؤرخ بذلك لجريمة من جرائم حكم نظام الأسد بحق النسيج المجتمعي السوري.

 

الرواية نت

 

The post ملكة “الفوعة”.. تلميذ “بنش” لشعبان عبود.. جرحٌ في جسدِ الزيتون appeared first on الرواية نت.

سيرة كاتب ملتزم

$
0
0

لم يكن أديب فرنسا الكبير، فيكتور هوغو (1802 – 1885) مضطرّاً إلى الانخراط في قضايا سياسية، أو الدفاع عنها. لم يكن سليل عائلة فقيرة، كان ينتمي إلى عائلة ميسورة، ولا مبرّر لديه للانقلاب على وليّ نعمته؛ النظام الملكي، على الأقل بسبب ما يتمتّع به من امتيازات. كان يتلقّى راتباً شهرياً من ملك فرنسا نابليون الثالث، ويتمتّع بحظوة في البلاط، حتى أنه لو أراد وزارة التعليم ما امتنعت عليه، لذلك يبدو من الغرابة أن ينضمّ إلى صفوف الجمهوريين المعادين للملك وطبقة النبلاء، وأن يصبح من أشد أنصار النظام الجمهوري الذي يدعو إلى المساواة بين المواطنين.

ما الذي يجعل أديباً يُعد من أنصار القيم المحافظة والمسيحية، ومرتبطاً بالنظام الملكي ومستفيداً منه، يغيّر موقفه، وينتقل إلى صفوف الطبقات الدنيا من المجتمع؟ يُقال إن هوغو اكتشف فجأة أحوال الطبقة العاملة في شمال فرنسا فهاله وضعها المزري. فكان انقلابه المفاجئ على أفكاره السابقة، والتحاقه بالمعارضة السياسية، لكن تحرياً للدقة، بدأ انشقاق هوغو عن المحافظين مبكراً عندما ألقى خطابه المشهود بعد انتخابه في الجمعية الوطنية، وفيه دعا إلى إنهاء البؤس والفقر.

وفي خُطب أخرى سيدعو إلى الاقتراع العام والتعليم المجاني. بينما سيطرح الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام على مستوى العالم، وتلازمه الفكرة على الدوام. في ذلك الوقت، كتَب في دفتر مذكراته: “سوف أظل رجل الحقيقة، رجل الشعب. وليس لدي أي طموح أن أكون وزيراً”.

قام نابليون الثالث، بعد الاستيلاء على السلطة عام 1851، بإلغاء مكتسبات الثورة الفرنسية بدستور كان مضاداً للبرلمان. فاتهمه هوغو صراحة بخيانة فرنسا، هرب بعدها من باريس إلى بروكسل، وخاطب الشعب الفرنسي بكتاب نشره ضد الدكتاتورية: “أيها المواطنون الأعزاء؛ لويس بونابرت شخص خارج القانون. لويس بونابرت شخص خارج على البشرية، هذا المجرم منذ عشرة أشهر يتسلّط على فرنسا. من حقكم بل ومن واجبكم أن تتمرّدوا على هذا النظام. كان الله في عونكم”.

ضغطت الحكومة الفرنسية على الحكومة البلجيكية، وطلبت منها طرده. اضطرت حكومة بلجيكا للامتثال للطلب، بعدها عانى هوغو في جزيرة إنكليزية عذاب المنفى مدّة عشرين عاماً، من هناك سيدعو إلى العصيان المسلّح والتمرّد على السلطة، كما سيطالب بالعفو التام عن مناضلي كومونة باريس، معتبراً أن الموقف العادل يقتضي مساندتهم، مع أن الغالبية العظمى من أدباء فرنسا أدانوهم. في الحقيقة، لو لم يكن هوغو قد أصبح في مأمن لا تطاله يد الديكتاتور، لكانت عقوبته الموت.

مثّل هوغو في زمانه رجلاً مفرداً، ولم يكن أقل من فيلق من الثوّار في نزاعه ضد الدكتاتورية. تبنّى قضايا كانت على حجم شهرته وموهبته ككاتب، أنتج روائع من الشعر والمسرح والرواية. وكان أعظمها روايته “البؤساء”، كتبها في المنفى، عاشت لتخاطب النزوع الكامن والراسخ في البشر إلى العدالة. ومنذئذ، أُعيد طبعها مئات المرّات وبمختلف اللغات، وصُوّرت عدة مرات للسينما والتلفزيون.

في زماننا هذا، ليس الكاتب والمثقف مفرداً ولا وحيداً، أصبح صوته مسموعاً ومشكوكاً فيه، وكان التساؤل، إلى أي جانب يقف؟ ففي “الربيع العربي”، انطلقت الملايين في الشوارع رافضة الدكتاتوريات، واختار الكثير من المثقفين الوقوف إلى جانب الاستبداد، كان التزامهم بالدكتاتورية لا بالحريات تحت عناوين علمانية ويسارية وليبرالية ودينية، وكانت أسبابهم تحريفاً للعناوين نفسها، تُخليهم حسب ظنّهم من المسؤولية، فتلاقوا مع مثقّفي عتاة الرجعيات العربية التي طالما شهّروا بهم.

اليوم بعيداً عن الجعجعة، مع من يقف المثقف الزائف، وإلى ماذا يطمح؟ لم يعد هذا غامضاً.

عن العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/culture/2019/9/24/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D9%85%D9%84%D8%AA%D8%B2%D9%85-1

The post سيرة كاتب ملتزم appeared first on الرواية نت.


رواية «حابي»… الجسدُ موضوعا للتأمُّلٍ

$
0
0

قَدَرُ كلّ روايةٍ، من جِهةِ ما هي كيانٌ فنيٌّ ينفعِلُ ويفعَلُ، هو أن ترمي بسهمٍ في قضايا زمنها، ولكنْ أيُّ قضايا هي جديرةٌ بأنْ تُرْوى؟ ما من شكٍّ في أنّ ما ترومُ الروايةُ قولَه هو ما لا يقوله الناسُ، أعني ذاك الذي يقع في حيِّزِ العَتَمَة ويأكل المجتمعَ من الدّاخل بنارٍ لا دخانَ لها ظاهرا. وإنه ليجوز القول إنّ الرواية إنّما هي من باقي فنون الكتابة الأدبيّة فنٌّ نَشِطٌ وحيَويٌّ وجريءٌ، وهي الأدْخَلُ من تلك الفنون في مجال طِبّ المُضْمَراتِ الاجتماعيّة‘ حيث تتنبّه إلى ظاهرات معيش مجتمعها، وتكشف عن أسبابها، وتُعايِن تجليّات عنفِها على الجسدِ العامِّ أو الخاصِّ، وتُوحي عبر كلّ ذلك بمسالك تجاوزها. ومن ثَمَّ يكون الروائيّون أنْجَعَ أطبّاءِ مجتمعاتهم: مِبْضَعُهم اللغةُ ووَصْفَتُهم التخييلُ. وإني واجدٌ روايةَ «حابي» لطالب الرفاعي (دار ذات السلاسل، الكويت 2019) تتحرّك في هذا المضمار، راسمة لقارئِها مِحْنةَ جسدٍ واقعٍ تحت سياطِ عُنْفَيْن متضافريْن: عُنفِ الفيزيولوجيا، وعنفِ الواقعِ، وهو إذْ يحاول فيها التحرُّرَ من هذيْن العُنفَيْن لم ينسَ أن يكتبَ حكايةَ ألمِه.

حكايةٌ أخرى

قد يُفيدني قول ابن عربي: «الخيالُ لا يُعطي أبدا إلاّ المحسوساتِ، غيرُ ذلك ليس له» في تأكيد حقيقةِ أنّ رواية «حابي» إنّما هي رواية بنتُ وقتِها، ومنغمسةٌ بروحها في بيئتها الاجتماعيّة الكويتيّة انغماسا متيَقِّظا لِمَا يمور فيها من قلقٍ أخلاقيٍّ خفيٍّ حول قيمةِ الجسد وعلائق الناس به، وما التخييلُ فيها، وَفْقَ تقديري الشخصيّ، إلاّ تلك القدرةُ الذّهنيّةُ على التنبّهِ لذاك القلق مع جُرأةِ تدبيرِ مَشَاهدِه عبر جمعِ شتاتِ مظاهره الاجتماعيّة، وصوغِها في حكايةٍ ذاتِ بنية فنيّة ضامنة لوحدة معناها وحُسنِ تلقّيها. وإنّ من صُورِ جرأةِ رواية «حابي» ما تجلّى في انصباب جهدِها الأدبيِّ على موضوع «التحوّل الجنسيّ» الذي لم يزل بعدُ ساكنا عَتَمةَ المسكوت عنه في المجتمع العربيّ، وعلى كتابةِ وجع ِالجسد وهو يُشوَّه ويُعنَّف ويُفْتَكُّ ويُنْفى، فإذا هي، في كلّ ذلك، مغامرةٌ اجتماعيّةٌ مُصاغةٌ في مغامرةٍ فنيّةٍ، وأحسب أنّها قد حازت بهاتيْن المغامرتيْن معا قَصَبَ السَّبقِ إلى موضوعها.
ولو حاولتُ اختصارَ أحداث رواية «حابي» لقلتُ إنّها روايةُ جسدٍ في اشتباكه مع ذاته ومع الآخرين، ويُحكى فيها عذابُ الشابّة «ريّان» التي كانت تشعر منذ طفولتها بشيءٍ فيها ذُكوريٍّ لا تعرفه ويُحيل عليه قولها: «كأنّ شيئا في داخلي كان يحرّك لهفتي المستورة نحو التقرّب من عالَم الأولاد». ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها وتأخّرَ مجيءُ عادتها الشهريّة على غرار ما يحدث لمَن هنّ في سنّها أبلغت والدتها بالأمر، فعرضتها على الأطباء في الكويت، وبعد تشخيص منهم دقيق لحالتها تأكّد لهم بأن جسد «ريّان» إنما هو جسدُ ذكرٍ مغموسٌ في إهاب أنثى نتيجةَ تشوُّهٍ فيزيولوجيّ، حيث خلا من رَحِمٍ ومَبِيضيْن (ص73)، ونتيجة لذلك نصحوها بضرورة تأصيل هُويتِها الذكوريّة لدى أطباء خارج الكويت. وعلى شدّة معارضة أخواتها وأبيها لمسألة تغيير هُويّتها الجنسيّة، قرّرت «ريّان» بدعمِ كلٍّ من والدتها وصديقتها «جوى» (الأمريكية من جهة والدتها) إجراءَ عمليات جراحية في مشفى «يانهي» ببانكوك، تمّ فيها إزالة الثديين وبقايا الجهاز الأنثوي، وصنع العضو الذكري، وتعديل مجرى البول، وبذلك صارت ذكرا دونما قدرةٍ على الإنجاب (أشير هنا إلى أنّ الثُّنائيّات المُتضادّة هي التي تحكم الأحداث في الرواية، وتُحيل فيها على تأرجحِ البطلِ على حبليْ الذكورة والأنوثة تأرجحا محفوفا بالخوف من السقوطِ). وحتى لا يُسبّب الشاب «ريّان» فضيحة اجتماعية لعائلته جرّاء تحوّله الجنسيّ قرّر السفر إلى أمريكا للاستقرار فيها صحبة صديقته «جوى» التي راح ميلُه العاطفيُّ إليها يتعاظم إلى حدّ تفكيره في الزواج بها.

هذا مختصَرُ مَحْكيِّ الرواية الصَّريحِ، وهو ما يمكن المجازفة بكتابته للتعريف العامِّ بها، كأنْ يكون خبرا عنها في صحيفة، ولكنّه مختصَرٌ يظلّ دوما دون القدرة على قولِ ما ترغب الروايةُ نفسُها في قوله، لأنّ كلَّ مختَصَرٍ إنّما هو أكبرُ عدوٍّ لموضوعِه: يُوقفُ حركتَه، ويُغيِّبُه، ويُغلِقُ أبوابَ معناه. وعليه وَجَبَ التأكيدُ هنا أنّ «حابي»، على غرار الروايات النّاضجة فنيّا، روايةُ حكايتيْن: واحدةٍ ترويها هي بلسانها وفيها تدبيرٌ فنيٌّ جميلٌ لتشابُك الذّات مع واقعها، ولانتفاضة الجسد على أعراف مجتمعه، وأخرى يحكيها القارئُ بلسانه، وهو ما يصعبُ معه مسكُ مَرْويِّها كلِّه واختصارُه إلاّ مُجازفة، ذلك أنّها ما إنْ تُقرأَ حتى تخرُجَ من «نصِّها» إلى ذهنِ قارئها؛ فتصيرُ فيه هاجِسا يُقِلِقُه قلقا لا يُشْفَى منه إلاّ متى أنشأ منها حكايتَه الشخصيّةَ: أيْ أنْ يروي حكايةَ قراءته لها. وفي ضوء هذا أقول إنّ ما وراءَ حكايةِ تغيير الهُويّة الجنسيّة لـ«ريّان» تُوجد حكايةٌ أخرى، هي حكاية مجتمعنا العربيّ وهو يسعى إلى الخروج من عُزلتِه الثقافية وتحقيق تحوّله الحضاريّ، أعني حكايةَ رغبتِه في التحرُّر من الهُويّة الناقصة في العالَم إلى الهُويّةِ الكاملة فيه. ذلك أنّ تقصِّي آفاقِ «حابي» الدَّلاليّةِ يُنبئُ بأنّ التشوُّهَ الخِلقيَّ لجسد «ريّان» ليس إلاّ كناية عن تشوّهات ثقافيّة يرزح تحت وَطْأتِها جسدُ مجتمعِ الرواية على غرار الملكيّةِ العموميّة للجسد الشخصيّ، وسُلطة الذّكورة، ناهيك عن غلبة المنفعة الشخصية على العلاقات الأسرية. وسأكتفي، بسبب ضاغطة النشر، بقراءة ثيمة الجسد دون غيرها من ثيمات هذه الرواية.

محنةُ الجسد

تُظهرُ رواية «حابي» شيئا من المَكرِ الفنيِّ وتُخفي كثيرَه، وكلُّ مكرٍ إنّما هو في النهاية جودةُ تخييلٍ، فهي تُحدّثني عن «الشّابة» ريّان وتعني بها «الشّاب» ريّان، وتصف لي عذابَ هُويّتها الموجودة في الحكاية وتُحرِّضُني على تخيّل سعادةِ هُويّتها المنشودة في الواقع؛ فإذا الضمير «هي» في نِظامِ اللغة يعني الضميرَ «هو« في نظامِ الذّهنِ، وكلّما اشتدّت حيرتي حول تأنيث «ريّان» أو تذكيرِها، ومالت قراءتي إلى اعتبار «حابي» رواية تنتصر للجسد وهو يتحرّر ويكشف دون خوفٍ عن تشوُّهه في مرآة ذاته وفي مرايا الآخرين، إلاّ وعادت الرواية تُدْمج الضميريْن في كينونة واحدة: هي كينونة الكتابة ذاتِها من حيث ما هي فعاليةٌ لغويّةٌ تخلُق الأجسادَ (كلُّ شيءٍ في اللغة جسدٌ)، وتُحَوِّلُها، وتُغرِقُها في المحنة كما تشتهي، وتُنقِذُها منها متى شاءت، وبذلك تُفقِدُني -أنا القارئ- توازُني الثقافيَّ والأخلاقيَّ والجماليَّ، وتُثيرُ فيَّ إحساسا بقصور تصوّراتي عن الجسد حين يتجاوز مفهوميْ الأنوثة والذكورة صوب مفهوم الإنسانِ بإطلاقٍ: إنسان يصارع واقعَه من أجل حرّيته وإرادته وسموِّه مهما كان نوع جنسِه. ومن مكر الرواية بي أنّها عرفت كيف تُرغّبني في التعاطف مع محنةِ الجسد عبر ترهيبها لي منه، وهذا بعضٌ من قوّتِها الفنيّةِ أيضا، حيث جعلت جسد «ريّان» يتحرّك فيها بين فضاءيْن: شخصيٍّ، واجتماعيٍّ. وفي كليهما أجده يحضر حضورَ شيءٍ لم تختره البطلة وإنّما اُبتُلِيَتْ به، إنه شيءٌ أبْكَمُ، يُؤلِمُ ولا يتألّمُ، كأنّما كلّ غايته في هذا الوجود هي أن يكون ضدَّ غاية البطلة نفسِها فيه: أيْ أنْ يكون فاعلَ تيئيسٍ لها وتنكيدٍ عليها. ومن صور ذلك أنّ جسدَها، في بُعدِه الشخصيِّ، لا يزيد عن كونه كتلة لحميّة تسكُنُ فيها ذاتُها مع وعيٍ لديها حادٍّ بأنه لا ينتمي إليها: هو بالنسبة إليها جسدٌ آخرُ، بل قُلْ هو حيِّزُ اغترابٍ وضَياعٍ: اغترابها عن أحوالِ كلّ مَن هنّ في سِنِّها، وضياع ذاتِها بين هُويّتيْن جنسيّتيْن.

وهذا الاغتراب، وهذا الضياعُ، هما معا سببُ أزمتها التي حَفَزَتْها لأنْ تسعى أوّلا إلى أنْ تنفي انتماءَها إلى هذا الجسد المُشوَّه بأعضاء الأنوثة، وهو ما أجِدُ له إشارة في قولها: «كرهت كوني فتاة بجسمي وطولي وملامحي» ، وأن تسعى ثانيا إلى أنْ تُخرِجَ إلى العلن جسدَها الذَّكَرِيَّ المُتخفِّيَ فيها والذي ظلّ يَخِزُها بارتباك ذُكورته كلما رأى أنثى: «لكن متعة غريبة ظلّت تمسّني لحظة تتعثّر عيناي بلمعة مخبّأة من جسد فتاة»، و«أحس به من حولي؛ ما يشبه خيالا عطشا غافيا تحت جلدي، لكنه يتلمظ مع حركات الراقصات.
يستيقظ لحظةَ تُطلق البنات والنساء جنونَ أجسادهن المكشوفة، فتتوه عيناي وأبقى خانسة أستلذُّ برجفة غريبة تستبيحني». وبمثل هذا الإحساس تؤكِّدُ الرواية حقيقةَ أنّ جسدَ بطلتها ريّانَ ليس هو ريّانَ نفسَها، إنه جسد أنثويّ يخفي خيالَ جسدِ ذَكَرِيّ مظلومٍ تشعر بفَحِيحِ مَرَاغبِه وشهواتِه وهي تفيضُ فيها، وهذا هو ما مثّل بالنسبة إليها عبئا نفسيّا أثقَلَ عليها وجودَها بين النّاسِ، ولم يُبقِ لها من حلّ للتحرّر من جسدها المُشوَّه إلاّ أنْ تفصله عنها أو أنْ تنسلَّ منه: «عشتُ أيام السنة الماضية ولياليها لحظة بلحظة، أنتظر هذا اليوم، ربما هي المحطة الأهم في حياتي، أتخلص من ثديَيَّ، يرمي بهما الطبيبُ الجرّاحُ إلى سَلّة القمامة». وإنّي أكاد أسمع في هذا الشاهد صوتَ ريّان الذَّكَرِ يهمسُ لي، وهو يتخلّص من ثديَيْه، قائلا: «أنا لستُ جسدي الذي وُلدتُ به»، وأراه يُحوِّلُه إلى موضوع خارجيّ، أعني إلى موضوعٍ قابِلٍ للسؤال وللتأمُّل عن بُعدٍ على حدّ ما جاء في المُقْتَبَسُ التالي: «أكونُ وحدي في البيت، فأسرع أغلق باب الحمام، أقف عارية أمام المرآة أنظر إلى جسدي، …، كأني أطلب من جسدي أن ينطق؛ ليُعينني على معرفة نفسي؛ هل أنا فتاة أم ولد؟».
وفي غليانِ هذه الحيرة التي ألمّت بالبطلة إزاءَ جنسِ جسدها لم تنسَ الرواية أن تُعِيرَ لهذا الجسد المظلومِ لسانا يتكلّم به ليقول للقارئ إنه ليس مسؤولا عن حالِه، وإنّ المجتمع هو الذي شوَّهه مرّتيْن: شوّهه خِلقة عبر عادة زواج الأقارب (أب ريّان هو ابن خالة والدتها: وشوَّهَه صورة من حيثُ طبيعةُ صِلة الناس به، فقد بدا في الروايةِ سجينَ أعرافِ محيطه الاجتماعي، وسجين تصوّرات الناس عنه، إذْ هو عندهم فاقدٌ لكلّ حريّةٍ شخصيّة، ولا يزيد عن كونه ملكيّة عامّة، يستحوذون عليه بالترهيب ويُصرِّفون أحوالَه دون مشيئته، ومتى ما سعى إلى التمرّد على حاله وتصحيح تشوُّهاته، حوّلوا سعيَه إلى فضيحة، واعتبروه مسخا على حدّ قول الأب: «لا أريد مسخا في بيتي»، بل هم يتمنّون موته مثل ما تمنّت نورة لريّان: «لو أخذك الموتُ كان أستر»، وإذّاك تنتقل عدوى محنةِ الجسد المشوَّه إلى الجسد المُتَحوِّل، وكأنّ الجسدَ العربيَّ منذورٌ لأنْ يحيا في أَتُون عذابه، فإذا ريّان يعيش بجسده الجديد محنتيْن أخْرَيَيْن: محنة أولى يطغى فيها شعورُه بكونه مُطارَدا ومرفوضا من قِبَلِ أغلب أفراد أسرته ومحيطه الاجتماعيّ وَفْقَ ما عبّر عنه بقوله إلى صديقته جوى: «أبي تبرأ مني، وطردني من بيته، ونورة وزوجها طرداني من الكويت، وتعرفين مواقف أخواتي وعمّتي»، ناهيك عن شعوره بعدم اكتمال الذكورة فيه (عدم القدرة على الإنجاب)، ولعلّ في تسميةِ صديقتِه جوى له بـ«حابي» ما يُناسِبُ حالَه الجديدةَ، فهذا الاسم يعود إلى الإله الفرعوني الذي «يُظهر جسدُه معالمَ الجنس الأنثويّ والذكريّ في الوقت نفسه»، وهي حالٌ أرى أنها قد جعلت من قَدَرِ الشابِّ «ريّان» أنْ يظلّ معلّقا بين الأنوثة والذكورة، أي بلا هُويّة جنسيّة، أيْ بلا نسلٍ، أيْ بلا أهلٍ ولا وطنٍ، وهو وُجودٌ علقَمٌ أشار إليه البطل في آخر جملة بالرواية بالقول: «أشعر كأن طعما مُرا بفمي، قدري أن أبقى حابي!»، وأُقدِّرُ أنّ «ريّان» بقدر ما سعى إلى الانفصال عن جسده المُشوَّه خِلْقة في بداية الرواية عاد في نهايتها يأتلف معه بكل ما فيه من تشوّهات اجتماعيّة ائتلافَ الضرورةِ، وفي هذا ما أراه يُمثّل الصورةَ الثانيةَ لمحنتِه.

٭ كاتب تونسي

عن القدس العربي

The post رواية «حابي»… الجسدُ موضوعا للتأمُّلٍ appeared first on الرواية نت.

الرواية هي وسيلة لتصوير الحياة

$
0
0

يجب ألا ننسى أن الرواية هي وسيلة لتصوير الحياة وكل تفاصيلها، وبالتالي فالسياسة جزء من حياة الإنسان، فكيف إذا كنا ننتمي إلى بلد يُعرَّف عنه أنه من العالم الثالث حيث تلعب السياسة دورًا أساسيًا في حياة الفرد على عكس سياسات الدول العظمى حيث – ولحسن حظهم – هناك ما يشغلهم في الفن والفلسفة والعلم والحياة الاجتماعية أكثر من السياسة على أساس أنها محلولة وواضحة وجلية في كل الأمور، حسب رأي السياسيين فيها. وأعتقد أن الناس في هذه الدول محظوظون. لكن في البيرو وفي كل اميركا اللاتينية السياسة تشغل الناس وبالتالي الكاتب، ولكن أحب أن أضيف شيئًا هنا وهو أن الأدب يمكن أن يستفيد من السياسة لكن الأدب لا يمكن أن يفيد السياسة إلا في حال قرار هدم الأدب أو الناحية الأدبية.

حين تصبح الرواية في خدمة قضية لتسويقها أو لضربها يكون الجانب الإبداعي في إجازة، لكن ثمة ترابط وثيق وغير مباشر ما بين الرواية والواقع الذي تستقي منه، فإذا كان واقع أو محيط الروائي مغمسًا بقضايا سياسية ملحة وبالتالي إنسانية ملحة لا يمكن أن يغفل الروائي عن واقعه حين يكتب وبالتالي تنتقل أحاسيسه وانفعالاته حيال هذه الأمور من حوله، ولكن يكون الجانب الأهم هنا هو النقد غير المباشر للواقع والإضاءة عليه على أساس أن الرواية هي هنا أقرب من الواقع أو أبعد منه وهذه المسافة هي الفاصل حيث يمكن للإبداع الكتابي أن يشير إلى احتمالات أو وجوه أخرى لا نراها في الواقع أو نتوق إلى رؤيتها.

من حوار سابق مع ماريو فارغاس يوسا.

The post الرواية هي وسيلة لتصوير الحياة appeared first on الرواية نت.

“نساء بروكسيل”للفلسطينية نسمة العكلوك

$
0
0

صدرت مؤخراً رواية “نساء بروكسيل” للفلسطينية نسمة العكلوك، والرواية تتحدث عن خمس شخصيات نسائية، يعيشن في بروكسيل. تحمل كل منهن هما أنثويا مختلفا عن الأخرى. قيود مجتمعية قد كسرها بعضهن وأخريات مازلن يحاولن. سارة الفتاة الفلسطينية المصورة الفوتغرافية والأم العزباء ومريم الفتاة العراقية التي مازالت تكتشف نفسها والحياة وتسأل كل ما يخطر في بالها دون حرج وتخاف من الرجل وتهاب الجنس . مها الفتاة السورية التي أجبرت على مغادرة سوريا وفقدت أثار والدها المصاب بالزهايمر ولم توفر أي طاقة في البحث عنه. سعاد الفتاة التونسية التي وقعت في غرام شاب تونسي وعاشا معا رغم اعتراض عائلتها والتقاليد المتعارف عليها في المجتمع التونسي. لور الفتاة البلجيكية التي تتحدث اللغة العربية بطلاقة وأما عزباء وقعت مرة في حب شاب فلسطيني من بيت ساحور.

The post “نساء بروكسيل” للفلسطينية نسمة العكلوك appeared first on الرواية نت.

المرأة في رواية “بجعات برية”للصينية يونغ تشانغ

$
0
0

تعد الروائية، يونغ تشانغ، من الكاتبات النادرات اللائي شَّرحن وعرّين واقع بلادهن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، عبر توثيق دقيق لمرحلة مهمة من تاريخه.
لقد وضعت هذه بصمتها على تاريخ الصين المعاصر، الممتد من بداية القرن العشرين إلى الثلث الأخير منه؛ حيث انطلقت في عملها الأدبي التوثيقي من موقع حقيقي لبلدها، فقد عاصرت أهم الأحداث التي مرت بها بلادها في مرحلة انتقالية عمودية؛ من واقع اجتماعي سياسي، إلى أخر مغاير له بالكامل، تجعلنا نشعر بأننا أمام مرآة عاكسة حقيقية لما حدث -ويحدث- في بلد عملاق مثل الصين.
في هذا هذه الرواية الضخمة، التي تمتد على مساحة ستمئة وخمس وثلاثين صفحة، رسمت واقع المرأة؛ حياتها، استلابها، قهرها…، بلغة بسيطة وسهلة، ومن دون أي تزويق للكلمات أو الأحداث.
ولدت يونغ من أبوين يُعَدّان من قادة الحزب الشيوعي، في أقليم سيشوان في الصين، عام 1952، وانتمت إلى الحرس الأحمر في بداية يفاعتها. عملت في” فلاحة الأرض، وطبيبة مشاءة حافية، وعاملة فولاذ وصلب، ثم طالبة تدرس اللغة الإنكليزية؛ إلى أن غدت مساعدة أستاذ في جامعة سيشوان. أكملت دراستها في جامعة “يورك” في المملكة المتحدة، ونالت درجة الدكتوراه في اللسانيات”.
بجعات برية رواية صادمة، تخدش نرجسية الذات الواعية، وتهز وجدانها وحياتها؛ إذ تحفز المرء على اكتشاف سوداوية الواقع، من خلال الرصد والإسقاط؛ لتتحول الكلمات إلى إبر مدببة، تنغرز في جسد وروح القارئ، وتحاصر أنفاسه من كل جانب، فتجعله يدخل حالة دوار وتساؤل صادم ومفتوح:
ـــ هل يعقل أن يستطيع الواقع أن يُخرج من ذاته كل هذا القيء والخراب والتفسخ
تتعامل يونغ مع حقائق الواقع بسهولة ويسر، من خلال معرفة مسبقة، وبتجرد وتجريد عاليين، بمعزل عن عواطفها ومشاعرها الشخصية. تكتفي برصد الواقع، وتتركه يخرج -بموضوعية- تعكس ما فعلته الحياة في الذات والمجتمع من تشوهات كبيرة.
نظام الجواري كان معمولًا به في الصين، قبل اندلاع الثورة، في بلد يعج بالفوضى والاضطراب السياسي، وغياب “الأمن والأمان، واعتباطية العدالة، والقسوة المتماسكة والمتقلبة، على حد سواء”.
عندما نقرأ مثل هذا النص، نشعر أن القراءة، كالكتابة تمنح النفس الإنسانية فائضًا من الثقة والعجز، في آن واحد، وشعورًا بالاضطراب واليأس والانفعال الزائد، أحيانًا كثيرة، عندما يقبض الكاتب على حيوات مجتمع ما، ويعريه أمامنا عبر الكتابة والمعرفة؛ عندئذ يقبض على الدهشة والإثارة المنفلتة من عقالها، ونذهب معه من الخيال إلى الخيال، عبر السؤال الساخر والمؤلم:
كيف يمكن لفتاة أن تعيش حياتها دون اسم؟ أو أن تبقى مجرد رقم، كما جاء في النص؟ أو يُحجَر على قدميها طوال سنوات طفولتها ومراهقتها؛ إلى حين بلوغها، فـ “تربط منذ نعومة أظفارها بقطعة قماش أبيض، طولها عشرين قدمًا، باستثناء الأصبع الكبير، ثم يوضع حجر كبير فوقه لسحق قوس القدمين، من أجل أن تصبح مثيرة للرجال عندما تكبر، وتدوم هذه العملية سنوات طويلة، تشعر الفتاة خلالها بألم فائض، وعندما يُرخى الرباط موقتًا في أثناء الليل، كان يمكن للمرء أن يرى طبقة من لحم متعفن، تنبعث منه رائحة كريهة”
إن المدخل إلى عملية ترتيب الزواج كان يتم عبر فحص القدمين؛ فكلما كانت صغيرة، كلما كانت مدعاة للاعتداد والفخر، وفرصة لا تتفوت للزواج. ويعد الحب عارًا وعيبًا، يجلب الخزي على العائلة. وعملية الزواج تُعقد وفق مواصفات لها علاقة بالتراتبية الاجتماعية والمكانة؛ وهي واجب اجتماعي من أجل استمرار السلالة.
أسر صينية كثيرة ترى في زواج أبنتهم فرصة لتحسين رتبتهم الاجتماعية، خاصة إذا كان الزوج ميسورًا، في واقع شديد الاحترام للمقامات الاجتماعية، كطبقة العسكر أو الشرطة أو الموظفين في الحكومة. ويعد الزواج صفقة رابحة، تباع فيها الفتاة – في عمر صغير- دون أن تُسأل، فالأب من يقرر، وباسم الزواج تتحول البنت إلى جارية في منزل أو قصر الزوج.
ويسعى الأب -عبر الزواج- إلى حماية وضعه، باعتماده على رجل قوي؛ ليحقق فرصة لحياة هانئة، في ظل رجال أقوياء، كان يُطلَق عليهم لقب أسياد الحرب، في الربع الأول من القرن العشرين، وفي بلد يعج بالصراعات الداخلية والمحسوبيات والولاءات المتقلبة والزعامات، ومحاولاتهم الاستفادة القصوى من الفراغ السياسي، في مكان لا وجود فيه لدولة مركزية، أو مرجع وطني. وكل واحد من أسياد الحرب له فصيله المسلح وعصابته، من أجل الاستحواذ على السلطة والمال والجاه والمكانة، في منطقة محددة أو إقليم محدد.
إن سقوط إمبراطورية المانشو؛ نتيجة تآكل الدولة بتقادم الزمن، وعدم قدرتها على إعادة إنتاج نفسها في المعادلة الإقليمية والداخلية، في تلك المنطقة من العالم، أفسح المجال لليابان القوية؛ كي تقتحم المجال الصيني، وتحتل منشوريا، في نهاية القرن التاسع عشر، وإخماد ثورة الملّاكين الوطنيين، وتدخل ثمانية جيوش خارجية، وتنشر الفوضى وحالة الضياع في عموم هذا البلد؛ ما تسبب في انهيار المؤسسات القديمة والتقليدية، وترك حالة من الفراغ في القوة والسلطة والسيطرة والأخلاق؛ فلا أخلاق دون قوة قابضة على السلطة، لها مؤسسات ترعاها أو تشد من إزرها.
إن المقاربة التي تقدمها لنا يونغ تشانغ عن الواقع عميقة جدًا، تكاد أن تعكس وتطابق بين القول وما يجري على أرض الواقع. ندخل معها -عبر الكلمات والسطور- في دهشة ما بعدها دهشة، وفي أحيان كثيرة في صدام، يجعلنا نفقد توازننا النفسي، ونشعر بأنها تقتحم ذاكراتنا العربية، وما يحدث فيها اليوم من تطابق، دون أن تشير إشارة مباشرة إلينا.
ندخل في مقارنة قاسية بيننا وبينهم. نُصدَم بمدى التشابه في التخلف والانتماء إلى العلاقات الأبوية الفوقية، ونتعرف -من خلالها- على الصين القريبة والصراعات التي كانت قائمة في داخلها، قبل أن يُسقط الزعيم الوطني، صن يات صن، إمبراطورية المانشو، ويعلن الجمهورية عام 1913، مؤسسًا حزب الكومنتانغ القومي الذي أفرز زعيمًا أخر، اسمه شيان كاي شيك.
تنطلق الروائية في اسقاطاتها الفنية على الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الصيني، من خلال عائلتها، وما جرى لها من آلام ومحن، وتأثير ذلك على حياتها ومستقبلها ومستقبل الناس في وطنها. في كل حقبة سياسية يتغير شكل التراتبية الاجتماعية؛ فتتغير العادات والتقاليد والأخلاق ونفوس الناس وحيواتهم؛ ففي فترة المانشو -كما ترصدها المؤلفة- تختلف هذه التراتبية اختلافًا كليًا، على الرغم من ترسبات كثيرة، عن التراتبية بعد قيام الجهورية، أو في أثناء دخول الدولة في صراع مسلح مع اليابان، أو في أثناء قيام الحرب العالمية الثانية، أو بعد قيام الثورة، بقيادة ماو تسي تونغ.
ونتعرف -من خلال الرواية- على البعد الديني في المجتمع، وعدد الأديان والمعابد، وحدود ومدن وأنهار وجبال ووديان الصين، وعلاقات الناس، ومنظومة القيم والجمال والبشاعة.
إن الإبداع ليس له حدود، سواء أكان تأمليًا، أم رصدًا أمينًا للمكان والأحوال، أم عبر السيرة الذاتية والوطنية، أم باستخدام مفاهيم وأفكار، ومقارنتها بين السابق واللاحق، وربطهما ببعضهما بعضًا.
الثورة التي قادها ماو تسي تونغ خلخلت البنية الاجتماعية التقليدية، بيد أنه كرس نظام الاستبداد، ولم يخرج عنه، ربما أعطى امتيازات كبيرة للمرأة، بتحريرها من القيود القديمة، لكنه لم يخرج من رداء العلاقات الأبوية البطريركية، بل كرس نفسه أبًا وربًّا على الدولة والمجتمع، وإمبراطورًا جديدًا برداء أحمر.
“بجعات برية” رواية مملوءة بالآلام والقهر، تضعنا أمام أسئلة لا شفاء منها، أسئلة إشكالية عميقة:
كيف يُصنع واقع المقهورين؟ وكيف يمكن تجاوزه، وتجاوز خيباته، وما السبيل إلى ذلك؟

من صفحة الروائي على الفيسبوك

The post المرأة في رواية “بجعات برية” للصينية يونغ تشانغ appeared first on الرواية نت.

مقطع من رواية “موسيقى صوفية”

$
0
0

لطفية الدليمي

بدأت تنعم بما هو أبعد وأبقى وأنبل من المتع الصغيرة الزائلة التي تتبدد لحظة الحصول عليها، ها هي الآن تستدعي الرجل – الحلم بروحها وتلتقي به في الأمداء المضيئة لكنها تفاجأ بظل شبحي قاتم يرتسم على الستائر الشفافة وله هيئة مسطحة تنقصها كثافة الوجود الحيوي التي تميز ظلال الأحياء، توقف الظل قبالتها في وقفة عنيدة مستفزاً سلامها الجديد، وعندما أمعنت التحديق به وفي صلفه المعاند، تبينت فيه مع فزعها ودهشتها هيئة شريكها الراحل (فخري توركلي) بقامته المديدة نفسها وترفعه البارد وعناده القديم. وبعد قليل رأته ينحني على حافة النافذة الخارجية يلمس عناقيد زهور الجيرانيوم الحمراء والوردية ثم يمرق مسرعاً بحركة متلصصة ما بين شجرتي الدلب المواجهتين لها ويندغم في سماكة الجذعين ليذوب بعدها ظلا باهتاً بين الظلال، وتراءى لها مرة أخرى يتحرك وراء عريشة الياسمين الممتدة على السنادات الخشبية وبعدها يتلاشى متعلقاً بأطراف الريح ليضيع بين الغيوم.

ازدادت الموسيقى صخباً في أرجاء البيت متصاعدة من مسامات الحجر وبقايا المقتنيات العتيقة.

أعدت سامية لنفسها قدحاً من القهوة وأحكمت إغلاق الدريئات الخشبية على النوافذ واحتضنت وجه الحلم الذي تلوذ به من عالم الموت وحصار الموسيقى المخدرة، وتهرب اليه من الشرور المحدقة بها وعدوانية الأشباح التي تهددها.

بعد قليل تناهي إليها صوت نشيج مكتوم، خرق بقايا الصمت وعندما استمر ميزت فيه صوت نحيب (فخري توركلي) في ليالي يأسه وعجزه  وأيام فشله عن حل لغز المرايا أو وهو يقاوم انهياره أمام (رهاب الحرائق) والحياة التي دمرها بحلمه البيزنطي العقيم.

امتزجت مع النشيج تقاسيم عودِه التي كان يعزفها في ليالي السمر البائدة حيث يسيطر بموسيقاه الصوفية على صحبه ومريديه والمعجبين بعبقريته في النحت والعزف ومعارضة الفلسفات بفلسفات  جديدة سرعان ما يدحضها بنفسه.

وبين النشيج والتقاسيم أخذت تتساقط أصداء أحاديث وكلمات وعبارات سمعتها  مرارا  منه ومن صحبه حتى غدت كوابيس كريهة تحط عليها كالرجوم.

قاومت، وقاومت لكي لا يهرب الحلم ولا يدمره هذا الاكتساح الشرير لأيامها، قاومت الظل الكريه وأصداء الأحاديث والنشيج والموسيقى التي تأتي مما وراء الحياة.

قاومت وهي ترى وجه الرجل الحي مشرقاً في أفقها، قاومت روائح الموت ومناورات الشبح قاومت عندما أخذ حضور الموت يهدد الحياة وما فيها.

جربت أن تتجاهل زيارات الظل المسائية وتجنبت الانصات لشهقات النحيب الممتزج مع ايقاعات موسيقى الخدر والانخطاف. ولكن الظل الشبحي ظل يحاصرها بملاحقاته الفظة بعد أن استبد بحياتها وبددها بخرافة (الحلم البيزنطي) والشطحات الباطلة. ثم اكتشفت في الصباح التالي ذبولا جماعيا للأزهار في أحواضها، تيبست بتلات الداليا الشيفونية وذوت نورات الاقحوان وانتثرت أشلاء عناقيد الجيرانيوم على البلاطات، ثم تبينت ان الذبول حدث في الليل ولم يكن بتأثير حرارة شمس النهار وما كان ليحدث لولا لمسات يدي الشبح التي نقلت اليها عدوى الفناء.

عندئذ قررت أن تتخلص من بقايا ذلك الماضي المقتنيات الخرافية والاثاث التاريخي المتهالك وكل تلك الأشياء التي أقام عليها (فخري توركلي) صرح حياته الوهمي فبدأت تنفذ الامر رفعت، كل المرايا البيزنطية التي كانت الغرف تغص بها وابعدت تماثيل رؤوس العباقرة من كل العصور، ودمى البورسلين المتشظية وعشرات غلايين الخشب والتحف والقت بها في مخزن وراء المبني ثم بدأت تزيل العفن المعشعش في البيت وتمحو   آثارالحريق الذي اجتاحه قبل أحد عشر شهراً، وفتحت النوافذ وغيرت مواقع الأشياء كلها، ولم تستبق سامية من بين كل تلك اشياء سوى المرآة التي ظل اطارها النحاسي المطعم بأنياب ذئاب طوروس محتفظاً بزينته الوحشية الصادمة، لم تتبين الدافع الخفي لاحتفاظها بهذه القنية الغريبة من كنوز زوجها الراحل، وعندما تحرت في طوايا ذاكرتها اكتشفت انه ذلك المعتقد الشعبي القديم التي يقول بقدرة أنياب الذئاب على درء الشرور فكان الناس يحملونها تمائم تدفع عنهم ضراوة الوحوش والأخطار وشبح الموت.

شيء أشبه بضباب رمادي كان يموج بين السطح الزجاجي للمرآة والطلاء القصديري، خيل لسامية انه بقايا من دخان الحريق احتبس ها هنا وركد طوال الأشهر الماضية، ثم رأت تلك البؤرة القاتمة المتكثفة وسط المرآة كأنها شارة الموت. أو لعلها أشبه بثقب (فضائي أسود) من تلك الثقوب ذات الشراهة كونية  التي تجتذب كل الاجرام اليها وتبتلعها وتذيبها في كثافتها المروعة.

علقت سامية المرآة الذئبية إلى يمين خزانة الكتب الرئيسة في الغرفة الكبيرة وحانت منها التفاتة نحو الباحة الخارجية فاكتشفت ان الزهور عادت إلى التفتح، تألقت براعم القرنفل والتمعت نورات السنتوريا الزرقاء بلون أعماق البحر، وفي خفوت الموسيقى تناهى إليها طنين اسراب نحل وصرير جنادب الصنوبر الثاقب، وحفيف أجنحة شفافة ولهاث مخلوقات مسرعة تنسرب في تيار الحياة.

واصلت الموسيقى الصوفية ترددها بدرجات متفاوتة من الوهن والخفوت، بدأت سامية تخرج إلى عملها وتنساها لكنها كانت تجدها في انتظارها كلما عادت وهي تطلق عليها غبار زمن (فخري توركلي) ومراياه وتماثيله وتذكرها بزمن الوقوف عند حافات الممالك البائدة.

2 – مرايا بيزنطة 

كان البيت قد امتلأ بمقتنيات أثرية لا حصر لها، أشياء لها التماعات زائفة، أدوات تفوح بروائح الممالك العتيقة، وصلت إلى البيت من عصور مختلفة وتراكمت في طبقات زمنية تمثل أمجاد الحضارات الآفلة، قطع اثاث استانبولية ببهرجات شرقية مطعمة بالأصداف والمرايا، طنافس سلاطين، رياش عثمانية  من دمقس عتيق وستائر بروكار وموسلين مذهب، أواني نحاس مطعمة بالميناء العراقية، فضة مؤكسدة تبقت عليها لمسات نساء مرصودات للموت، سجاد يروي حكايات عشق خرافية وأساطير بطولة، مباخر لا تزال تفوح بالمسك، مشاكي معدنية يزينها زجاج  ملون يفيض بأقواس قزح وانعكاسات لا نهاية لها.

إلا ان المرايا كانت تحتل المكانة الاولى بين مقتنيات البيت، وتغطي مساحات الجدران والزوايا والممرات، وهي مرايا عتيقة تحمل تراث منطقة تاريخية شاسعة تمتد من أواسط اوروبا حتى اواسط آسيا، مرايا تزينها تيجان من عاج الفيلة، وأكاليل من الصدف وقرون الأيائل، وتلتمع على بعضها أحجار كريمة من الجزع والعقيق وأحجار الدم، مرايا غرست في أطرها أنياب ضوارٍ ومحار من بحر  ايجه و مرايا زينت بشذرات من الفيروز واللازورد، ومنها مرايا ذات أغوار سحيقة، تبدو مثل بحيرات خادعة ومرايا تردد آلاف الانعكاسات إذا مسها شعاع تائه يسقط عليها من زاوية معينة، وبينها مرآة زينتها جماجم أفاع ٍمن ارضروم رصعت محاجرها بالتوباز واليواقيت الحمر، أتى  فخري توركلي ببعضها من أقصى بقاع الامبراطورية البيزنطية، وجمعها خلال سني عمره في تلك الأيام الخوالي التي تزدهر فيها بعض أنواع الاستثمارات من تهريب  تحف وآثار خلال  الحروب العظمى ، وأنفق من أجل اقتنائها ثروة خيالية، اشترى بعضها من خانات استانبول وقلاع أزمير وحصون ادرنة، وأحضر إحداها بواسطة عملية تهريب مدهشة من مدينة تيرانا عاصمة البانيا وحصل على  بضعة منها من بائع تحف تركي اكتشفها في سرداب ملحق بقصر من قصور السلاطين المهجورة، كانت تحتجز فيه النساء المغضوب عليهن من محظيات وجوارٍ وسبايا ولا تعطى لهن سوى وجبة طعام واحدة يومياً وحولهن مرايا كثيرة يعذبوهن بها إذ يرقبن ذبول الصبا والحسن يوماً بعد يوم في سرداب الجنون المميت.

ووصلت اليه مرايا مع ما ورثه من أبيه من طرف ونفائس ثم أمضى عمره الباقي يرمم أطرها ويعيد اليها ما فقدته من أصداف وحبات عقيق وأحجار فيروز ويواقيت وظل يحملها معه من بيت الى بيت ومن زمن الى آخر وهو يواصل الترحال عبر سنوات عمره ما بين مدن تركيا وموانىء سوريا حتى انتهى به الأمر إلى بذل ارث سلالته الذي آل اليه من أجل تحقيق حلمه البيزنطي بنفسه.

وظلت سامية النعمان طوال سني عيشهما المشترك تلهث وراء ارتحالاته المفاجئة راكضة بين المدن والبيوت، تمارس الحياة بعكس تيار رغباتها وتقاوم نذر انهيار زواجها العقيم من آخر سليل لملوك بيزنطة العظام الذي كان يسخر كل شيء لتحقيق حلمه الملكي بينما كانت سامية تتخلى عن كل الأشياء وتعيش باسلوب مضاد لمكونات وجودها.

وأمام هذا العمر المضنى بالعجز وموت الأمل، كانت تلتزم صمت النادمين الذين غصوا بوليمة خسائرهم، فيبدأ (فخري توركلي) بالقاء تبعة الشقاء والعقم ووباء الترحال على المدن والأرواح التي تسكن البيوت، وسطوة الجهات الأربع ومهبات الرياح وأنواء البحر وحركات النجوم في أفلاكها، ثم حاول بدهاء العراقة الموروثة وثعلبية السلالات المنحدرة من عروش الامبراطوريات أن ينسيها ويتناسى معها كل الأحداث المحتدمة حولهما  الحرب الأهلية العمياء وفساد الانظمة في الأرض المطلة على البحر المتوسط وعذاب الانسان المعاصر في مستنقعات الموت  في الحروب والجوع والأوبئة، ثم دفعها بايحاءات يجيدها، وبأحاديث يحسن تصريفها بلباقة موروثة إلى أن تهمل الانصات لهدير حركة الزمان في علبة التاريخ المقلوبة، وان تدير عينيها عن فكرة الحتميات المفروضة على الحلم الانساني، حتى آل بها الأمر إلى اللوذ بتلك الملاجىء التي يحتمي وراءها اليائسون والعجزة والقانطون من كل أمل.

وصارا يتوسلان الغيب، ويحرقان بخوراً من أصماغ جاوه لاسترضاء أرواح الاسلاف المتجولة ما بين حدود (امبراطورية بيزنطة ) والجبال الشرقية وامتدادات صحارى العرب، إلا انهما لم يحظيا بغير المزيد من الشقاء والتسليم بلعنة العقم.

فاذا انتقلا إلى بيت جديد يشتريه فخري توركلي في مدينة جديدة تراه ينشغل في الأيام الاولى باختيار أشرف الأمكنة وابرزها (لمرايا بيزنطة) ثم ينصرف بعد ذلك إلى تنسيق مجموعة تماثيل رؤوس العباقرة ودمى البورسلين وغلايين الخشب ومجلدات الفلسفة الالمانية ومصادر التصوف والموسيقى والكتب  التي تبحث في علم آثار بيزنطة في الأمكنة الاخرى.

أبدت (سامية النعمان) في عام عيشهما المشترك كرفيقي حياة -نوعاً من اعتراض مهذب على وفرة المرايا التي أصبحت تحيط بها أينما اتجهت في أنحاء البيت وتضللها عن حقيقة الأشياء والملامح والحجوم والألوان، وتعكس لها عشرات النساء اللائي لهن وجه سامية وملامحها المستكينة القانطة واللائي يناقضنها بشرارات تمردهن واشتعال عيونهن، وأولئك الهازئات منها، حتى كادت تفقد صوابها، فأخذت تغطي المرايا بأستار وسدول كلما خرج (فخري توركلي) من البيت، لكن أوقات خروجه بدأت تتناقص بالتدريج، حتى قطع معظم علاقاته بالخارج واكتفى باستقبال الضيوف من الصديقات والأصدقاء كل ليلة في منزله.

وزاد من رعبها ان المرايا كانت تقلب كل شيء بطريقة تخلف اضطراباً دائماً في وعيها، إذ يصير اليمين يساراً واليسار يمينا وتختلط الجهات، وتضيع الحقائق التي تعلمتها في فوضى الانعكاسات اللانهائية بين المرايا الغريبة.

  • مقطع من رواية قصيرة (نوفيلا) عنوانها موسيقى صوفية.
  • الطبعة الأولى 1994.

The post مقطع من رواية “موسيقى صوفية” appeared first on الرواية.

Viewing all 1074 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>