Quantcast
Channel: الرواية نت
Viewing all 1074 articles
Browse latest View live

كلمة يصدر رواية “أركاديا تصحو”للكاتب الألماني كاي ماير

$
0
0

أبوظبي، 29 نوفمبر 2018: أصدر مشروع “كلمة” للترجمة التابع لدائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي رواية “أركاديا تصحو” للكاتب الألماني كاي ماير، ونقلتها إلى العربية شذى الكيلاني، وراجع الترجمة مصطفى السليمان.

تعد رواية “أركاديا تصحو” الجزء الأول من سلسلة فانتازيا ثلاثية تدور أحداثها حول قصة المراهقة “روزا” التي تزور عائلتها في صقلية هرباً من مشاكلها في أمريكا حيث تعيش مع أمها، فتتعرف هناك على الشاب “اليساندرو” لتبدأ قصة حب تجمعهما، ولتكتشف روزا حقائق صادمة عن عائلتها، ليس فقط تورطها بالفساد وبنزاعات المافيا الدموية، وإنما أيضاً قدرة أفرادها على التحول إلى حيوانات مفترسة. تبدأ هنا رحلة البحث عن الذات والصراع الداخلي المتمثل بحتمية تقبل الواقع الجديد ومواجهة ما ينطوي عليه من تحديات.

يسرد ماير الأحداث المترابطة والمتشابكة في العالم الذي يختلط به الواقع بالخيال بأسلوب مشوق يجعل الخيال يشرد بالقارئ في محاولة لحل الألغاز الغامضة التي لا تخلو منها الرواية. ويعتمد الكاتب على الوصف المستفيض لشخوص روايته بما في ذلك مظهرهم وشخصيتهم ووضعهم الاجتماعي ومشاعرهم وتصرفاتهم وعملية تحولهم، وكذلك للأماكن التي تجري بها الأحداث مما يجعلها تتجسد أمام عيني القارئ فيكاد يراها حقاً. ولا ينتهي عنصر التشويق بقراءة الصفحات الأخيرة من الرواية، فبعض الألغاز لن تحل إلا في الجزئين الثاني والثالث من سلسلة ماير.

ولد الكاتب كاي ماير عام 1966 في ألمانيا ودرس علوم السينما والمسرح ثم عمل صحفي قبل أن يتفرغ للكتابة الأدبية. يعتبر كاي ماير من أهم كتاب أدب الفانتازيا الألماني، وقد ألف ما يزيد عن الخمسين رواية للبالغين والناشئة، وقد ترجمت العديد من أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، وهو حائز على الكثير من الجوائز الأدبية. وتم تقديم العديد من أعماله في أفلام سينمائية ورسوم متحركة وأعمال مسرحية للإذاعة، ويذكر الكاتب على صفحته الإلكترونية أنه يجري حالياً التحضير في هوليوود لتحويل ثلاثية أركاديا إلى فيلم سينيمائي.

أما شذى الكيلاني فهي مترجمة أردنية، أَنهت دراسة اللغتين الألمانية والإنجليزية في الجامعة الأردنية وحازت على درجة الماجستير في اللغة الألمانية لغير الناطقين بها من الجامعة الألمانية الأردنية، وعملت فيها محاضرة ومدرسة لدى معهد غوته في عمان. تعيش حالياً في سويسرا وتعمل مترجمة أدبية وقد ترجمت حتى الآن تسعة أعمال من أدب الأطفال والناشئة ضمن مشروع “كلمة”.

الرواية نت


علّمتني روايتي الأولى أن أواجه مخاوفي

$
0
0

عندما بدأت بكتابة روايتي الأولى بعنوان “دنيا نور والحبّ الذي لم يتوقعه أحد”، قضيتُ وقتاً طويلاً في محاولة العثور على اللغة المناسبة، والنبرة المتوازنة، ووجهات النظر الصحيحة لوصف شعوري تجاه سوريا؛ البلد الذي قضيت فيه طفولتي وسنوات مراهقتي، وكذلك وصف محاولات شباب ليكونوا صادقين مع أنفسهم، على الرغم من جميع الضغوط التي كانت تسير بخلاف ذلك؛ أعتقد أنه صراع يواجهه كلّ الشباب في جميع أنحاء العالم، ليس فقط في سوريا وحدها.

إن العثور على الذات الحقيقية والأصيلة، والمضي في رحلتنا الشخصية الخاصة بنا يتطلب تفانياً بطولياً لأجل الحقيقة ومقداراً كبيراً من الشجاعة، وهما صفتان غالباً ما تثبطهما المجتمعات في الشباب، وتحديداً عند البالغين، وحتى لدى الكتاب والفنانين.
في محاولة للعثور على هذا الصوت الحقيقي والصادق الذي يحكي قصة دنيا نور، قمتُ بالعديد من المحاولات، ووجدت نفسي أمام العديد من التساؤلات:

هل علي أن أكتب بالطريقة التي قيل لي أن على المرء أن يكتب بها، أم يجب أن أكتب ما فكرت به وشعرت به حقاً؟

في الجمل التي صغتها، والمشاهد التي حبكتها، كنت أخشى أحياناً أن أكون عاطفية جداً، أو شبيهة بطفلة، أو فلسفية جداً، أو مرحة جداً، أو صارمة جداً، أو أن أخلط كل هذه الانفعالات والملامح معاً بطريقة سيجدها بعض القراء غريبة وغير مقبولة، لكنني أدركت لاحقاً أنها كانت جوهر ومهمة هذا الكتاب، أي إدهاش الناس ومحاولة قول الحقيقة بطريقة بسيطة، دون خوف من ردود الفعل أو العواقب.

علّمني هذا العمل الروائي أن أواجه مخاوفي.

سمحت لنفسي بكتابة ما ظهر بشكل طبيعي في مخيلتي دون محاولة مراقبة نفسي أو التحكم في السرد الروائي، وبهذه الطريقة ظهرت العديد من القصص التي أخذتني على حين غرة.

على سبيل المثال، ظهرت شخصية سها حبيبي من العدم، وقد علمتني أشياء كثيرة لم أكن أعرفها من قبل. لم أقابل شخصية مثل سهى طيلة حياتي، ومع ذلك بدت بالغة تماماً ومألوفة؛ وكذلك كانت دنيا نور.

في البداية، اعتمدتُ على دنيا على نحو غامض جداً، لكن سرعان ما أصبحت تمثّل نفسها، وحلّقت بعيداً عني، وأصبحت شخصاً جديداً لم أقابله أبداً.

خطر الكثير من الأفكار بذهني خلال كتابة المسودات القليلة الماضية، ونشأت بشكل طبيعي من القصة التي شعرت في كثير من الأحيان بأنها كانت تكتب نفسها، وكانت وظيفتي في الغالب تحريرها، وتنظيم عناصرها، وأسلوبها.

__________________________

* وُصفت الرواية بأنها “رواية فكاهية رومانسية سياسية صوفية و فلسفية عن فتاة تتمرد عبر الأشياء التي تحبّها، والأشخاص الذين تحبّهم”. الرواية لم تترجم بعد إلى اللغة العربية.

* نشأت رنا حداد في مدينة اللاذقية في سوريا، وانتقلت إلى المملكة المتحدة عندما كانت مراهقة، درست الأدب الإنكليزي في جامعة كامبريدج. عملت منذ ذلك الحين كصحافية في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، والقناة الرابعة (4).. كما قامت بنشر الشعر. وهي تعيش الآن بين لندن وأثينا.

تطور الرواية الحديثة لجيسي ماتز..

$
0
0

من حواضن التنوير الفكري إلى البحث عن حيوية الكتابة في ظل العولمة
تظل الرواية كتاب الحضارة (بدءا من الاوروبية) الأثير ، وحاجة الإنسان للارتقاء للأعلى كفعل إنساني خالص، حيث جاءت كتفتق للأمل بين الحدود الفاصلة لموت حضارة وولادة أخرى ،وكل ما ينبت في الأنقاض سيغدو بلا ريب علامات بليغة تعكس طورا حيويا ووجوديا يختلف تماما عما قبله.

هكذا سايرت الرواية الحضارة الاوروبية تحديدا من النشء والشباب وحتى الشيخوخة إن جاز لنا التعبير، ولهذا نجدها تتلون بلون التقلبات التاريخية سلبا وإيجابا، حروبا وسلما، فهذا الفن السردي قد تجاوز فضاءاته الاوروبية إلى اللاتينية والافريقية وغيرها من الأصقاع، ولم يعد مصيره مرتبطا بحضارة ما ،كما أن الرواية ليست غاية او هدف بعينه بقدر ماتشكل حالة إلتقاء بين ثلاث اضلاع ،الإنسان والزمان والمكان ،ولن تكن شكلا مطلقا لحالة التلاقي تلك، حتما سيداهمها التطور ،ومن يدري إلى ماذا ستؤول؟

كان للحرب العالمية الأولى تأثير صادم على الكتاب والمثقفين حينها مما حدا بهنري جيمس، للقول:

سقوط الحضارة في هذه الهاوية من الدم والظلمة، أطاح بذلك الشيء الذي لطالما أفترضناه (كوة الامل ) التي ستمكننا من رؤية ماسيؤول إليه العالم … الذي يرتقي بشكل تدريجي ،او كما لاحظ مودريس إيكشتاين بأن نزاهة العالم الواقعي وعدالته ،العالم المحكم التنظيم ..قد تقوضت تماما.

إذن وضع كل شيء محل المساءلة والمراجعة كما يقول جيسي ماتز ( المؤلف ) لا الحرب وحدها بل كل القيم والمثل وحتى الواقع ذاته وبدا الامر كما لو ان الحرب جعلت كل هذه القيم تبدو مثل (كذبة كبيرة)، الحضارة عدت وهما كاذبا ،والحداثة باتت خطرا داهما وغدت الحقيقة في حاجة ماسة إلى طريقة جديدة في النظر إلى العالم وفهمه ..

الحرب تسببت بخيبة امل كبيرة غير مسبوقة دفعة الإنسانية الى التحرر من الوهم الذي مكثت فيه من قبل ،وكتب بول فوسيل ( عكست الحرب فكرة الإرتقاء والتقدم ) .

نشات الرواية الحديثة مع إنبثاق الحداثة ويميل البعض لجعل توقيت نشوء الرواية الحديثة يتزامن مع العام ١٨٥٧ الذي شهد نشر عملين أساسيين باتا معلما الحداثة الفرنسية ، ( أزاهير الشر ) لبودلير و( مدام بوفاري ) لغوستاف فلوبير ،بينما يذهب البعض الآخر إلى إعتبار 1914 عاما لإنبثاق الحداثة الروائية معتبرين أن الحرب العالمية الاولى كانت بمثابة فتق كارثي -مثل جائحة مرضية – شكل فاصلة زمنية بين ماض متحضر مستقبل مكتنف بفوضى مطبقة .

استمدت الرواية صيروتها من الحداثة مهما بدت متلكئة في السير بركبها،حيث يدعى العام 1922 بذروة الحداثة ، في ديالكتيك غير متجانس الأدوات والقيم ،او بالأحرى تعتبر الحداثة طورا ماديا وتقنيا من الحضارة نفسها ،وتغدو الرواية قيمة منطوية ضمن تداخل يتضافر في تشكيل نسيجها الهائل ( الحضارة ) ،ولهذا تنمو الرواية بدءا في سياق جانبي لإنزياحات ذلك النسيج حتى تكتسب معان متجددة وخلاقة تمكنها من مواجهة ذاتها اولا ومساءلة كل ماحولها ثانيا، لتصل في رحلة الكينونة إلى الجوهر حتى تعيدها الأحداث والحروب للبدايات مرة أخرى ،حيث تتشكل كما ينبغي للبقاء ان يتشرب وجوده من متطلبات القوة والإيديولوجيا كطور اولي ووقتي ، أشبه بدأب إنساني خالص في إختلاس نفسه بالسير بمحاذاة غير مرئية للقوة حتى يكتسب شيئا من عواملها ،ويظل هذا المحنى كتلازم طفيلي ( ربما غير مؤثر في أغلب الاحيان ) للحفاظ على الحد الأدنى من قيم وإشراقات الإنسانية عبر تراكمات قيمية وجمالية النشوء والتحلل والتبدل لقيم الحضارة نفسها ..

كان الروائيون الشباب في العام 1910 يسعون لان تتخلى رواياتهم عن تماسكها المصطنع الكذوب ،وعن نزعتها التصالحية مع الذات التقليدية والنظرة غير الحديثة الى العالم – بالإبتعاد عن النهايات السعيدة او المأساوية -اذا مااريد لها ان تستعيد المعنى والصلة مع الحياة ،ثم اتجه الروائيين الى مجابهة الحداثة او حتى تحقيق البديل الخلاصي لها عبر امتلاك شكل من ( الامل الخلاصي التعويضي ) بعدما شغف بعض الروائيين بإستعادة المعنى والجمال والكمال في العالم الحديث ،ودعا ستيفن سبندر هذا الميل ( نمط الامل ) ومضى الى القول :ان الفكرة القائلة بان الفن الحديث يمكن ان يحدث تحولا في الحياة المعاصرة يجعل الافراد اكثر هدوءا نبلا وجنوحا للسلام لهي فكرة خليقة بتنوير العالم .

فكلما تكتسب الرواية سمة ما سرعان ماتتجه للتخفيف منها او بالأحرى للتخلي عنها ،والإتجاه إلى زاوية أخرى وهكذا ،عملية تنقل لايهدأ لها بالا ، توقا للحيوية بدينامية لاترتأي غير الإمتلاء رويدا بروح الحياة ،معركة لايهمد اوارها ضد السكون ،وضد فكرة الموت نفسه الذي يتهددها بسطوته الهائلة كمحرك للمتطلبات المادية للحداثة ،فمن الإعراض عن موجة الحداثة إلى مجاراتها والإعتراف بواقعها وصولا لمناهضة نسقها الآلي و المتوحش ،ومن تمثيل الواقع إلى محاولة كشف وعيه الذاتي عبر السايكلوجيا ،والذي انتقدها جورج لوكاش واعتبرها تملصا من المسؤولية المجتمعية حين حولت الإنسان لكائن مقيد ،سكن وغير قادر على الحركة ،وتحول العزوف عن السياسة والإخلاص للجمال إلى العودة بعيدا عن الوقوع بمبدأ الفن للفن ،لتجد طريقها للموازنة بين المطلبين كما فعل جورج اورويل في روايته ( العالم السفلي) الذي مكنته من مقت (السيوسولوجيا القاحلة ) ،ونزلت اللغة الموجهة للطبقة الراقية إلى اللغة اليومية المبسطة كالأنماط الكتابية لهمنغواي وغيره ،ومالبثت أن صعدت سلم التعقيد والغموض مرة أخرى على يد وليم فوكنر كما في ( الصخب والعنف ) .

اما التساؤلات المرتبطة بإجتراح التجارب ( الذهنية ) غالبا ما نشهد مثيلا له في الروايات الحديثة ،فتساؤل مثل ، كيف يمكن لسطوح الأشياء ان تكشف – او تخفي – مايقبع تحتها ؟ ويمكن ان تقودهم تلك التساؤلات إما الي اليأس آذا مابدت تلك المظاهر ذات تأثير كبير في الواقع وإما الي البهجة إذا انتهت بومضات نادرة تفضي لكشوفات ثرية .

برأيي أن تلك التساؤلات خصوصا تلك التي وردت في رواية (الجندي الطيب ) ياروسلاف هاشيك الساخرة عن الحياة ، هي بث لروح الظاهراتية لإيدموند هوسرل ،فلسفة الفينومنولوجيا التي تعني بظواهر الأشياء وتغفل ماهيتها التي كانت رائجة وقتها ،بحيث عكستها كلمات جون دويل بطل الرواية ،وباتت الرواية متغير ضمن دالة المعارف الإنسانية ومكنها هذا التداخل من حمل بذور الفكر بشكل إستباقي او عكسها ضمن الشخوص ولو بالحدود الدنيا ،فشخوص الاعمال الروائية ربما لاتبتعد كثيرا عن روح الفلسفة السائدة ،وإن لم تدعي تلك الروايات بروايات الافكار الإ أنها تعكس ومن زوايا بعيدة بعضا من السمات الفكرية لعصرها ..

مع قدوم الحرب العالمية الثانية ( الكلام للمؤلف ) بدا أن أسوأ مافي الحداثة هو الذي بات يحقق الإنتصارات الحاسمة تاركا للرواية ملاذا صغيرا للغاية تحتمي فيه ،وعلى أساس هذه النظرة يدعي البعض أن ماكان يدعى ( نقطة ذروة ) لم يمض في الإستمرار طويلا بعد ذلك ،إن (نمط الامل ) العتيد ،وبرغم إيمانه بالتجريب الفني وقناعته بأن الرواية يمكن أن تكون عرضة للمراجعة الأدبية ،فإنه لم يكن قادرا على تجاوز أهوال الحرب العالمية الثانية والرعب الذي صاحبها كما يقول البعض ،إذ من ذا الذي سيحافظ على ثقته بسلطة الفن وعظمته بعد أن إختبر الناس ماعلمتهم الحرب بشان سطوة الفوضى الجامحة ؟ ،وحتى لو لم تقتل الحرب تلك الدفقة الحداثية ،ألم تكن الموجة الحداثية ستلقى خاتمتها على يد ثقافة مابعد الحرب المشبعة بالتهديدات النووية ،والنزعةالتجاريةالمتفشية،والإنقسامات المربكة ؟ تلك بعض ثمار الحداثة التي برهنت أن الرواية عاجزة عن الوقوف بوجه مدها العارم ..إن هذا المشهد يؤرخ لنهاية الرواية الحديثة بطريقة كيفية وتقريبية عام 1939 او عام 1965 وصارت الرواية بعدئذ توصف بتوصيفات أخرى .

إذن باتت الرواية وكأنها في معزل عن رجال التنوير والمفكرين بحيث بات عليها أن تؤسس لنفسها سياقات معرفية وتبدأ في حمل نفسها في حقبة نووية ،مما دفع جون بارث لكتابة مقالة عن ( ادب النضوب ) 1967 ،وبعد عقد من الزمان عاد ليكتب مقالة مختلفة كليا عن ( ادب التجديد ) ،وكأنه أستشعر بأن الركون إفرازات الحرب الكونية الثانية كحتمية فاقت كل الخيالات ، لن تكن مناسبة تماما لإعلان نضوب مواضيع الرواية ،ذلك الفن الذي لايحتاج لإزدهاره الإ إبداع صادق وذلك هو مايحتاجه من سلاح ،وجاءت رواية مابعد الحداثة بصيغة ميتافكشن او الميتاسرد ،وصارت الغاية كلها تنصب في تفكيك كيفية الرؤية ،وتحولت الواقعيات متن خيالي ملتبس ،وجاءت الفانتازيا الإيروتيكية أكثر حيوية من البحث عن الغرائبيات واكلة لحوم البشر ،وربما تكن رواية لوليتا ١٩٥٥ للروائي فلاديمير نابكوف هي المثال الافضل للتوجه الروائي القائم على اساس ان موضوعة الجنسانية الصادمة يمكن ان تعزز حيوية وقدرة الرواية الحديثة على النمو والإرتقاء والإستدامة بحسب قول جيسي ماتز ,وباتت الرواية مابعد الحداثية أكثر تجريبية،حيث أستعادة روايات الافكار ،وحولت التاريخ لدراما سردية بإخضاعها للتخييل مجددا ..

الرواية مابعد الحداثية والمابعد كولونيالية
…………………..
يختتم الكتاب الذي ترجمته الكاتبة العراقية لطفية الدليمي بإستنتاج :إذا سملنا بحقيقة القول ان الرواية الحديثة قد إرتقت وتطورت إلى الادب مابعد الحداثي ،والأدب مابعد الكولونيالي ،وطالها الكثير من التجديدات والتحديثات بواسطة هذين النوعين الادبيين …

ومايلبث حتى يتساءل :هل يمكن ان نرى اليوم بعضا من الروائيين المعاصرين ممن يمضون في إدامة شعلة إستمرارية التجديد والتحديث ؟

حدد المؤلف اربعة كتاب :

– فيليب روث : في بداياته اتخذ اخذ الرواية بعيدا عن مسالك ( الملاعبات الشكلية ) والإقتراب بها نحو نوع أكثر مباشرة من الواقعية.
في ( وداعا كولومبس ) و(شكوى بورتنوي ) ،اللذين جعل فيهما التوق الامريكي ( الجنسي ،الثقافي ،السياسي ) موضوعا لنزعة تشكيكية قوية ..
روائي مثل روث ذاته يقص علينا حكايات متناقضة تحكي كل واحدة منها عن إمكانيات مختلفة ،ولكن هذه ال( ميتارويات ) كلها تتجه نحو فكرة إستحواذية واحدة : كيف يمكن للروايات الخيالية الخاصة بالرغبات الإنسانية ان تساعدنا على الوقوف بوجه الحقائق الواقعية الخاصة بفنائنا الجسدي ؟ وبكلمات اخرى : كيف يمكن لهذه الاوجه المختلفة من وجودنا الجسدي ان تشكل قصص حياتنا التي هي خلطة متعادلة من واقع وخيال ؟
تصل فكرة الإستحواذ ذروة تمجيدها لدى روث في عمله ( المشهد الرعوي الامريكي ) 1997

– توني موريسون : في روايتها ( محبوبة ) 1987 ،تجعل من المفارق للطبيعي الوسيلة التي تثري بها اللغة التي تحكي بواسطتها عن موضوع الرق التي كانت قد استبعدت حتى ذلك الحين بسبب الشكل السيئ من العلاقة بين اللغة والسلطة بعد ان أحتضنت النزعة العنصرية اللغة ،ولم يعد في اروقتها فسحة لتذكر الذين ماتوا جراء الرق وبعيدا عن ( التوثيق ) الرسمي السائد .

لجأت موريسون إلى الفانتازيا المفارقة للواقع بغية تغيير الحكاية الرسمية بشان الرق بحيث يمكنها إحتواء حكايات الرقيق ،في غياب ماتفعله اللغة الإبداعية بواسطة الخيال سيظل التاريخ مادة لجروح لاتندمل ،وستظل حيوية الثقافة بعيدة عن المتناول وماكثة كرهينة بيد النكران والعنف يفعلان فيها ماشاء لهما ،موريسون تسوغ – كما لم يفعل احد من قبلها – الجهد اللازم لتجريب شيء جديد في الفن الروائي يمكنه مجاراة الحداثة السائدة لغرض جعل العالم مكانا افضل للعيش .ليست موريسون وحدها بل يشاركها الكثير من الكتاب النعاصرين هذه النزعة الادبية المثالية – إقامة روابط صريحة بين الإبداع الادبي والعافية الثقافية ..

– جيانيت وينترسون : لعبت دورا بطوليا في الدفقة الحداثية التي سعت لجعل اللغة الروائية تمتلك قوة خلاصية مؤثرة ..
(البرتقال ليست الفاكهة الوحيدة) ( 1985 ) : رواية توظف هجينا من موضوعين مختلفين : المسيحية الإنجيلية والميول الجنسية الأنثوية المثلية ،
.بالنسبة لوينترسون فانها تكتب بثقة كاملة ان الرواية تتبع المسار الإبتكاري ،ويمكنها ان تخلق واقعيات أفضل من ذي قبل ،وبالنسبة لها فإن الكتابة هي نوع من النبوءة : الرواية التي تسبق التوقع عماسيجري في الحياة ..

وترى وينترسون أن الشغف ( أي ماقد ياتي على نحو مثير للدهشة وسط تركيبة من التقاليد الإنجيلية والتداعيات الإيروتيكية ) يمكن ان يوخز العالم الغارق في صمته وإكتوائه بالأسبقيات التي تفرضها الحداثة عبر اللغة التجريبية للرواية ،وتقول إن النمط من التفكير يجعلها وريثة للرواية الحديثة :
الافتراض بأن النزعة الحداثية ليس لها علاقة حقيقية بالطريقة التي نحتاجها للإرتقاء بالرواية الآن يعني ان ندين القراء والكتاب ونلقي بهم وسط أتون الشفق الفيكتوري المتسم بالإنحطاط ،والقول بأن الرواية التجريبية كائن ميت يعادل القول بان الادب كائن ميت هو الآخر.الأدب فعالية تجريبية ومنذ ان باتت الرواية تعد رواية بحق فإننا مالم مستمر في تعديلها وتوسيع تخومها من غير ان نجعلها تغرق في ( اللاشكل ) أكثر من القدر الذي تغوي به الرواية فيمكن لنا عندئذ أن نركن الرواية في زاوية مهملة من احد المتاحف !!
الأدب ليس متحفا إنه شيء حي …

-الروائي الرابع الأقل إحداثا للضجيج من الآخرين هو الجنوب افريقي جي .إم.كوتزي الذي تسببت تجربته الشخصية مع الإضطرابات السياسية الخاصة بسياسة الفصل العنصري (الأبارتهايد) وتداعياتها القاسية في قتل كل أسباب الأمل لديه ،يستخدم كوتزي ( حياة مايكل .ك وأزمانه ) 1983خليطا مميزا من الانماط الروائية الحديثة والوجودية والمابعد كونيالية المفضلة له وشكل منها رواية قادرة على حيازة هذا الطيف من الاهداف المتطرفة : الإبتكار الجمالي والإلتزام السياسي وعلى نحو لاينتابنا فيه أي شك بان هذه الميزات المعاصرة جعلت الرواية الحديثة قادرة على تجميع قواها والإتجاه نحو مستقبل مفعم بالحيوية …

…………….
كتاب : تطور الرواية الحديثة ،تأليف جيسي ماتز/ ترجمة : لطفية الدليمي

الوطن المفقود في رواية “فجيعة الفردوس”لـــهيثم الشويلي

$
0
0

يغتسل الروائي “هيثم الشويلي”بالوجع المخضرم مع الذكريات الجميلة التي تستوطن الذاكرة، يفتتح نصه بجملة تختلط فيها الأفراح بالأحزان يقول:«الذكريات كالنبيذ الأحمر حلوة في فوات أوانها مرة في حقيقتها»، وكأنه باستحضار الأحمر هنا/النبيذ الأحمر سيأخذنا إلى عالم مليء بالدم، يتطلب أن نسكر حتى لا نشعر بالألم، ليضيف مستهلا حديثه -كعادته- مطعما سرده بالأنثى فيقول:«يقال أنكِ شيء ما..لكنكِ كنت كل الأشياء»، وعليه: من التي ألقت بهذا الكاتب/ الروائي/ البطل في لعنتها!؟ ولماذا الوجع رفيقٌ دائم لكتابات الشويلي!؟ أهي الفجيعة حقا!؟

يراودني العنوان وأراوده بكل ما فيه من تناقضات يجتمع فيها الرعب والخوف إلى أقصاهما، ذلك أن الفردوس هي أعلى مراتب الجنة؛ فهل يحاول الروائي أن يحيلنا على أن هذه الرواية تحتضن أقسى درجات الوجع من خلال عنوان روايته:(فجيعة الفردوس!؟) ربما.. فقد افتتح هيثم سرده بآلية زمنية تبنى فيها قالبًا استرجاعيًا مشيرا إلى أقصى درجات الحزن مستحضرا الوطن، والفقد، والغربة، تارة وأقصى درجات الفرح باستحضار أنثاه تارة أخرى، ولو حاولنا الجمع بين هاتين الثنائيتين الوطن، والأنثى لوجدنا بأن الأنثى معادل موضوعي للوطن/الأم/ العراق، ولكن المفارقة تكمن في أنّ حضور الوطن كان موجعا حد النخاع، وحضور الأنثى كان مفرحا حد السكر، موجعا حد الفجيعة. وكأن الكاتب حاول من خلال أنثاه أن يودع الشق الجميل من الوطن فيها، ليقتله بعد ذلك من خلال الحرب، والدمار الذي حل به.

ينطلق الكاتب من هذه الثنائية ليكون السرد برمته استرجاعا لذكريات حصلت وانتهت، وهذا لا يلغي تخلل القصة بعض الإستباقات التي فرضتها طبيعة البناء السردي الخاص بهذه الرواية. أحداث مضت وانقضت أعاد حضورها بلسان أبطاله، بدءً من “عبد الناصر” الذي جعله يمتهن مهنة الكتابة/كاتب،”عبد الناصر” الذي تغرب عن وطنه/العراق واستقر في كندا، هاربًا من طيف الموت/الخديعة/الفجيعة/الدمار/الحرب، وصولا إلى”كريم كوبرا” كشخصية تلازم مستشفى الأمراض العقلية، ولكنها شخصية متفردة، مرورا بـــ”شيماء” الصحفية العراقية الناشطة ضد الفساد، والمفسدين، حيث أن معظم كتاباتها هي اقتصاص ضد المسؤولين الكبار، الذين لا يهمهم ما يحصل من انهيار في وطنهم، لينتهي بها السرد بالاغتيال من قبلهم بعد تهديدات عديدة وجهت إليها من جراء كتابتها الصحفية الناقدة للفساد والمفسدين، “شيماء” التي تلقت أولى خطوات الحب على يد “عبد الناصر” الذي ترك الوطن بعد وفاتها، “شيماء” التي كانت الوسيط بين كل من”كوبرا”، و”عبد الناصر” في بداية السرد، فهي من اقترحت كتابة رواية عن “كوبرا” كونه شخصية تمتلك الكثير من الحكايات الصادقة والمخيفة -التي تخص الوطن- الصالحة كمادة دسمة للكتابة، وهنا تبدأ رحلة الوجع، الذكريات، الحب، الفقد، الحرب، السلام، الغربة بكل أنواعها: (غربة النفس، الغربة عن الوطن، والغربة عمّن أحببنا). وينطلق “هيثم” من الجنون كمادة ليوصلنا إلى أقصى درجات الحكمة، والعقل منطلقا من مقولة:( الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين).

أن يسير السرد بلسان “كوبرا” الذي يقتن بمستشفى الأمراض العقلية، هو الجنون عند الجميع، وقمة العقل عند الكاتب/ عبد الناصر/ الروائي/ هيثم ليكون بذلك السرد ثنائي، يتداوله كل من “كوبرا” و”عبد الناصر”، أما “هيثم” ففي هذه الرواية هو مجرد ناقل لأحداث غيره خارج حكائي متجانس حكائي. ينغمس السارد بكل هذه التفاصيل ناقلا لنا أزمة العراق وصراعها مع السلطة الفاسدة بلسان الأنثى/شيماء التي هي في الحقيقة معادل موضوعي يحلينا على العراق. وبين الفساد والصلاح يتجلى الصراع الذي ينتصر فيه الفساد في الأخير على الصلاح، ممثلا في حقيقة اغتيال شيماء. وتنتصر فيه الحرب على السلام، والفقد على الحب، وهنا الكاتب ينتصر لفجيعته رغم كل المحاولات الكبيرة منه، والآمال التي حاول أن يجعلها تكبر في قلبه قبل عقله لجعل العراق وطن يشبه باق الأوطان، لكنها الحقيقة المرة التي تجعله يستسلم للفاجعة التي التصقت بتلابيب الكتابة، لينتهي السرد بأمل مؤجل ارتبط ببالونة سلام أطلقها الكاتب في عنان السماء/ سماء الغربة/كندا قدمتها أم لابن مجنون صفعه أثناء استرجاعه لأحداث الرواية برمتها وهو جالس يتأمل البحر، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن تلك الصفعة أفاقت العقل الباطن لـــ”عبد الناصر”، أفاقته من وهم عشش في لغته بصوت “كوبرا”/ المجنون ظاهريا/الحكيم باطنيا، وهنا يتجلى لنا بوضوح الصراع الحاصل بين العقل الظاهر والعقل الباطل، يتجلى لنا خطاب العقل والجنون ممثلا في تلك الصفعة من قبل المجنون، والتي تحيلنا على العقل في حد ذاته. أمّا تلك البالونة البيضاء فهي الأمل الهارب، في فضاء سماء غريبة غربية لا تشبهه، الأمل الدفين الذي يتضمن رسالة الكاتب للسلام/اللون الأبيض قد يكون مفادها أن العراق سيرفع رايته وسيعود المجد مرة أخرى للوطن.

إن المتأمل لهذا السرد الذي تتشابك فيه “خطابات العاقل والمجنون” يستشف بأن الكاتب أوهمنا في البداية بأن “كوبرا” مجنون، ولكنه في الحقيقة فضّل الجنون على العقل؛ أي أنه فضّل البقاء في مستشفى الأمراض العقلية، على الاستقرار في وطن عاقل والتعامل مع عقلاء!. وهذا الهروب هو حكمة لاذ بها كوبرا ليقول الكثير عن الوطن تحت مسمى الجنون، وكأن الكاتب/هيثم، والراوي/ عبد الناصر اختارا –أيضا- الجنون كوجهة لقول الحقيقة عارية دون خوف، ذلك أن البوح بالحقيقة هو موت للذات، ولعل اغتيال شيماء أكبر دليل على أن الحقيقة تموت مهما صمدت، والبوح بها عارية في وطن يستجيب للرشوة، ويخرس كل الأفواه الناطقة بالحق موتًا. وعليه فإن اختيار”كوبرا” هو اختيار حكيم، وهو قمة العقل، هو اختار الجنون ليبوح بكل الملابسات الخاطئة التي تقام جهرًا وخفية في وطنه، واختار ولاذ بعقله من هذا المجتمع المريض/المجنون، واستقر في مستشفى الأمراض العقلية الذي أصبح يمثل له حدود الوطن، وما خرج عن تلك الحدود فهو وطن آخر لا تمثله سوى الحدود الجغرافية. وبذلك نفهم بأن كوبرا في هذا السرد هو صدى صوت الكاتب والراوي عبد الناصر، وكأن الذي لم يستطع البوح به الكاتب والراوي خوفا من فجيعة الموت، قالاه بصوت كوبرا.

وعليه ينتصر خطاب الجنون/العقل، على العقل/ الجنون. وتنتصر الكتابة الإبداعية/التي يعتبرها الكثيرون -ضرب من ضروب الجنون- على الواقع المر، وتنقل الحقيقة/ حقيقة الواقع/ الوطن/ الحقيقة عارية في ثوب إبداعي جميل دون أي ضرر، وكأن الكاتب أراد أن يحيلنا -بعد أن قتل شيماء واغتيالها/ التي تمثل صوت الحق-، على أن الحقيقة تبقى عارية مهما أراد الآخرون قتلها، وأن صوت الحق سيجد ألف طريق ليمر وينصر الوطن، ولعل هذا ما مربطه بالنهاية/ الأمل، والسلام المأمول مستقبلا/ البالونة البيضاء.

الرواية نت

“مسيح دارفور”لبركة ساكن.. غيرنيكا سردية

$
0
0

” غيرنيكا لبيكاسو” الإجابة الفورية عند اغلب المهتمين بالرسم ان سئلوا عن: ” أي لوحة تجسد رعب الحرب في القرن العشرين ؟”. وإن عدنا لتاريخ قصة هذه اللوحة فقد أنهى بابلوبيكاسورسمها سنة 1937 وجسدت تعبير فني عن وحشية الحرب. استوحى فكرتها اثر قصف القوات النازية والفاشية الألمانية والايطالية لسوق صغير ومكتظ بالناس في غيرنيكا، الباسك. وذلك جاء بعد طلب الجنرال فرانكومن القوات النازية لمساعدته على القضاء على الحرب الأهلية في اسبانيا بترويع السكان. وتتضمن صورة لمشهد مجزرة ناتجة عن القصف. ونقل عن بيكاسوأنه لم يبد في رسوماته (قبل اللوحة) موقفه من الصراعات السياسية، رغم أنه كان من المعارضين لحكم الجنرالات (الدكتاتورية) بعد الانقلاب على الحكم الجمهوري الذي كان يعني الديمقراطية. وقد عاش في فترة من أحلك فترات حكم الفاشية والدكتاتورية تحت حكم فرانكوالذي شرد ألاف المواطنين وقضى على كل أشكال الحياة وجعل من اسبانيا جحيما. إلا أن قصف غيرنيكا لساعات، مخلفة وراءها ( وان لم يحدد العدد الصحيح للضحايا) أكثر من 1654 قتيلاً و800 جريح، من بين ما يقارب 7000 من إجمالي سكان غيرنيكا. قتلت العديد من الحيوانات. هدمت المنازل. أحرقت الأراضي. وصلت النار إلى أكثر من%70 من السكان والتهمت %20 من الأراضي. أمام هذا الخراب العام انتفضت إنسانية بيكاسووتخلى عن حياده ورسم غيرنيكا ليعبر عن موقفه الرافض للحرب والدمار.

نتمكن، في اللوحة، من رؤية مشهد مجزرة مروعة في مكان تم قصفه. دمرت القذائف كل ما وجد أمامها: دمار، بقايا حريق، أجساد تشوهت وتحولت إلى أشلاء وتصرخ جراء قتل أي شكل من أشكال الحياة واهانة الكرامة الإنسانية. ولا تزال لوحة غيرنيكا محل انبهار والهام لدى المهتمين بالفن ونجد من بينهم الكاتب السوداني عبد العزيز بركه ساكن. فروايته مسيح دارفور تعد غيرنيكا سردية للقرن الواحد والعشرين.

والمعروف عن بركه ساكن أنه لا يعترف بالحدود بين الفنون تماشيا مع نظرية رولان بارت الناقد الفرنسي أن :”اللغة ليست بريئة على الإطلاق، فللكلمات ذاكرة أخرى” وهوما ينفي تقسيم الفنون إلى أجناس مستقلة بذاتها. فالأعمال الفنية تحوي آثارا لأجناس مختلفة مثل ما تضم رواية مسيح دارفور أثرا للوحة غيرنيكا . ومسيح دارفور مثال عن إمكانية أن تلهمنا لوحة رسم إلى ابتكار نص سردي. وهذه سمة من سمات أدب ما بعد الحداثة وهوالتناص “Intertexualiy”. بما يعني ابداع عمل فني جديد ويشبه أويتأثر بعمل سبقه.

عند قراءة مسيح دارفور، نتوصل إلى الأسباب المنطقية التي جعلت بركه ساكن يستوحي فكرة الرواية من مشهد لوحة غيرنيكا. فكلا العملين انبثقا كرد فعل إنساني رافض لأهوال الحرب المدمرة والمهينة للجنس البشري. فمثلما كانت اسبانيا تعاني من حرب أهلية بسبب الدكتاتورية فان السودان بدورها لا تزال تعاني من حرب عرقية. وكما استعان الجنرال فرانكوبألمانيا وايطاليا لترويع الأسبان، الميليشيات والتنظيمات المشاركة في حرب السودان حسب التقارير المسربة مدعومة من الصين وروسيا وغيرها من الدول الأفريقية والأوروبية.

وكما قال فينسنت فان غوخ: ” الفن هومن يساوي أولائك الذين كسرتهم الحياة”. هذا التقارب في السياق التاريخي وراء العملين أكسب معنى لاستلهام الفكرة من اللوحة. وحسب عبارة غابريال غارسيا ماركيز، الكاتب الكوبي”الزمن لا يسير وإنما يدور حول نفسه”. دورة الزمن زادت من التقاطعات التاريخية والسياسية والإنسانية بين لوحة غيرنيكا ومسيح دارفور.

لكن لا يجب قراءة اللوحة والرواية مجرد محاكاة حدث أووقائع تاريخية بحتة. العمل الفني ليس تقرير صحفي مهمته الأساسية نقل الواقع، كما هو. وكذلك يصبح اجحافا في حق غيرنيكا ومسيح دارفور، إن ربطنا تحليلهما بالإطار التاريخي فقط. فهما قبل كل شيء، تعبير عن عالم فني لمخيلة الفنانين. وحتى لا نسقط على حد عبارة ويليام ك. ويمسات ” المغالطة المقصودة” أو” The Intentionnal Fllacy”. وهوما يعني حسب تيار “النقد الأدبي الجديد الأمريكي ” Criticism American New “، أن العمل الفني يجب دراسته بمعزل ومستقل عن الاطار التاريخي عند ظهوره. حسب ويمسات حياة الكاتب ونواياه وتجاربه لا دخل لها في تقييم قيمة ونقد العمل. لكي نقترب من الأثرين ب”قراءة مقربة”، وجب رؤية المحتوى إن كان حقيقياً تاريخياً أوخيالياً، تجربة فنية. التركيز أصبح على العمل وما يحتوي من تقنيات فنية وليس الرسام والكاتب. وكذلك مؤسسو” الشكلية الروسية ” أو” Russian Formalism ” يرون أن الفن متحرر من الحياة الواقعية وليس محاكاة أوتمثيل. يرى فيكتورب. شكلوفسكي ” الفن كتقنية” وليس وصف للمجتمع. لأن الفن كخطاب يختلف عن بقية الخطابات الأخرى. فهويتناول ما هوشيء يومي واعتيادي ويحوله إلى صورة جديدة وغريبة عن المتلقي. وهوما يطلق عليه عبارة ” Defamiliarization “.

ويصل الفنان الى هذه النتيجة كلما أتقن استعمال الاليات والتقنيات الفنية الملائمة لعمله. وكما يقول رومان ياكبسون، أن الشاعر أوالفنان في العموم: “يرتب ويعيد ترتيب المادة التي تحت تصرفه”. وهذا متحقق باتقان أدبي في مسيح دارفور، بتحويلها بشكل ملفت ويستدعي الدراسة، من رواية الى لوحة سردية. بركه ساكن رتب وأعاد ترتيب آليات النص النثري المكتوب الى عمل مرسوم ويشابه لوحة غيرنيكا.

نستنتج من القراءة الأولى للرواية تقارب التعبير عن مشهد المجزرة. محتوى لوحة غيرنيكا يعبر عن مشهد مجزرة اثر قصف بالقذائف وشخوصها عالقين في الرعب والهلع من الموت والنار. وشخوص مسيح دارفور لا يقلون عنهم رعبا. المجزرة انحصرت في مدينة غيرنيكا أوتحت سقف واحد. وتعطينا الانطباع أنها تنتشرالى الخارج وتصل الى البشر المحيطين بالبناية. المجازر في مسيح دارفور تمتد تقريبا على كامل السودان لتصبح التراجيديا لانهائية ولا يستثنى منها أي مواطن سوداني أعزل ومسالم. لا يستثنى الشيخ ولا المرأة ولا الطفل. يرى أى مشاهد أوقارىء، دون استثناء، الرعب والهلع والسبب وراء الحالة المذلة لمكونات اللوحة وشخوص الرواية. و يمكن أن نبني مقارنة بين مكونات غيرنيكا ومسيح دارفور فنرى الكثير من انعكاس مكونات اللوحة وتأثيرها في الرواية حتى أنها تصبح بذاتها لوحة مشاهد بنص سردي.

لوحة غيرنيكا: تتضمن امرأة تصرخ وتمسك بيديها طفلا، ثور، جندي ممدد على الأرض ويقبض على سيف بيده اليمنى، حصان، فانوس بالسقف، امرأة تظهر من الشباك وتمسك مصباح، امرأة هاربة، ما يشبه امرأة تلتهما النار. لا توجد صورة مكتملة لأجساد البشر أوأجسام الحيوانات. كلهم مشوهون مما يزيد في رعب المشهد.

لوحة مسيح دارفور: المرأة التي تمسك بين يديها طفلا وتصرخ وتنظر إلى الأعلى ولا من مجيب أومغيث لها أولابنها في لوحة بيكاسويقابلها، كانعكاس أوتناظر بتقنية الرسم، مشهد المرأة الطويلة والنحيفة وأم الطفلين التي نكل بها الجنجويد. نراها معلقة في شجرة وأمامها رأس ابنها مفصول عن جثته، “كانت جثة طفلها الذبيح مسجاة ليس ببعيد عنها، رأسه ً المتورمة ترقد أبعد قليلا، تريد أن تلمس رأسه، كأنما سوف تواسيه بذلك أوتقلل ألمه، لم تحس بأنه ميت، بل يرقد برأس مفصولة متورمة عن الجسد، تجمد الدم عليه في مكان العنق، تحس أنه يحتاج إليها، يحتاجها بشدة”. عذابها لم ينته هنا، رأس زوجها قطع وأخذه الجنجويد معه، ” أخرج جنجويد من جرابه رأس زوجها، وقال إنه سوف يعلقه في باب بيته، إلى أن يأخذ بثأره”. وليواصلوا التنكيل اغتصبوها الواحد تلوالآخر، “بينما أخذ أحدهم يجردها من ملابسها بقطعها بالسكين، ثم بمساعدة آخرين ربط رجلها اليمنى على شجرة النبق والأخرى على وتد دق بالأرض، وأخذ يغتصبها وهي تصرخ وتقاوم، تعض وترفس. .. ثم أخذ وراءه آخر وآخر” . لم يرحمها القتلة والمعتدون بالموت بل تركوها كما قال أحدهم، :”إن الموت بالنسبة لها راحة، خليها تمشي تعيش في معسكر كلمة بين ميتة وحية، لا زوج لا أطفال لا أم لا أب لا بيت لا قرية لا شرف. “. ولتكتمل التراجيديا الانسانية للمرأة، لم يكترث لها ولم يغثها فريق الأمم المتحدة. وجدوها مغتصبة ومرهقة ومعلقة في شجرة جاؤوا وغادروا تاركينها في وضعية قاسية ووحشية ولم يحاولوا مساعدتها خوفا منها. فأفراد فريق الأمم المتحدة ” فجأة اختفوا، تركوها كما هي”.

وجود الحيوانات والجنود الموتى والحرائق والحطام موجود في كلي اللوحتين. في لوحة غيرنيكا يوجد رأس ثور دون جثة وحصان في حالة غضب. في الرواية أحصنة العم جمعة ساكن تبدأ بالصهيل والاضطراب عندما ترى جنجويد وكأنهم يذكرونها بالقتل والرعب، “وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقًا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا”. وتغمر المعاني التي لها صلة بالحرق والقتل كامل الرواية، “حرقنا المنازل وما تبقى من بيوت لم تُحرق حتى لا يعود إليها ساكنوها مرة أخرى ليثيروا الفتن”.

ذهب بعض نقاد لوحة غيرنيكا إلى أن وجود النساء يرمز إلى الحياة والجمال وبقتل النساء يعم القبح والموت. وهوما ينطبق على لوحة مسيح دارفور، فالنساء دائما الضحايا في المرتبة الأولى مثل أم الطفلين وعبد الرحمان التي، “التقطوها من لظى المذبحة حيث إن موظفي الإغاثة وجدوها حيَّة تحت جثتين متحللتين”. النساء في غيرنيكا يصرخن وينتحبن من رعب الموت الذي يلفهم. النساء في مسيح دارفور مغتصبات وثكالى وفاقدات عائلاتهن ومشاركات في الحرب أيضا للانتقام. يرجح بعض نقاد غيرنيكا ان سبب غياب الرجال المدنيين في اللوحة يرجع إلى أن الرجال في الحرب فقط النساء والأطفال كانوا موجودين في السوق لحظة الهجوم بالقاذفات. في سودان مسيح دارفور، النساء أيضا يشاركن في الحرب إلى جانب الرجال. وتكون الصورة تنتمي للكوميديا السوداء والقاتمة بتحقق المساواة بين النساء والرجال في الرعب والانتقام. مساواة عبثية لا تؤدي إلى شيء إنساني.

السبب الرئيسي لدمار الإنسانية في العملين هو تخلي الدولة عن مواطنيها. المجزرة في غيرنيكا، ايحاء مباشر لاستدعاء الجنرال فرانكوالنازيين لقتل هؤلاء الضحايا. القوات الحكومية في سودان الرواية تخلت عنهم ولم تحميهم من الجنجويد، “وقالت له بصورة واضحة إن الذين قتلوا أمها وأباها واغتصبوا أخواتها حتى الموت، ليسوا جنودا نظامين ولكنهم الجنجويد، وهي تعرف وتفهم الفرق، نعم كان بإمكان الجيش أن يحميها، ولكنه لم يفعل”.

وإن كان يوجد فرق البسيط بين لوحة غيرنيكا ومسيح دارفور في إن مكونات اللوحة تمثل الضحايا فقط. لكن في الرواية نرى الجلاد والبريء، السفاح والأعزل ويعيشون في المكان نفسه، “لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا أباه، والآن يسكنون فيها ” و ” نيالا… يسكنها الضحايا المهجرون من قراهم معا والقتلة الذين يرتكبون فعل التشريد والتهجير”

الجزء الذي يمثل المجرم والمعتدي في لوحة مسيح دارفور هم في الصف الأمامي وهم الجنجويد . هم” مغول” الرواية كلهم جنكيز خان وكلهم هولاكوفي بغداد في القرن 13 م. أضرموا النار في بيت الحكمة وتعد من أعظم المكتبات في العالم فاحترقت كتب علمية وفلسفية واجتماعية نفيسة. ورموا باقي الكتب في نهري دجلة والفرات . وعذبوا أهل العلم والثقافة ودمروا المعالم العمرانية قتلوا وشردوا أهلها. “مغول النيل”، الجنجويد، في رواية بركه ساكن، مهمتهم الحرق والقتل والاغتصاب لا فرق بين رجل وامرأة وشيخ وطفل . الجنجويد تحركهم عداوة للحياة وحب للقتل في أي لحظة، “على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب”. وتعريف كلمة الجنجويد في “ويكيبيديا ” :”جنجاويد” أوجنجويد مصطلح سوداني مكون من مقطعين هما: “جن” بمعنى جنى، ويقصد بها أن هذا الجني (الرجل) يحمل مدفعا رشاشا من نوع “جيم 3″ المنتشر في دارفور بكثرة، و”جويد” ومعناها الجواد.. . ومعنى الكلمة بالتالي هو: الرجل الذي يركب جوادا ويحمل مدفعا رشاشا. كلمة جنجويد تعني كما ذكر سابقاً (جن راكب جواد يحمل مدفع جيم 3) وترمز للرجال الذين يقاتلون من فوق الخيل ويحملون ال ج3 (البندقية الالية المعروفة) والكلمة تأتي من (جنجد) حسب رواياتهم وتعني (النهب) حيث أنهم منذ سنوات عديدة يحترفون النهب المسلح بمنطقة دارفور، ويقولون (نمشي نجنجد) أي ننهب ومنها أتت تسميتهم بالجنجويد … ومنهم من يمتهن النهب لجلب القوت له ولأسرته. وقد ارتبط هذا المصطلح بأزمة دارفور بشكل كلي، إذ ينسب سكان دارفور من ذوي الأصول الإفريقية هذا المسمى لميلشيات شبه منظمة وذات أصول عربية تعمل على فرض سطوة الحكومة المركزية على الإقليم، وتتهم أيضاً بتنظيم عمليات اغتصاب وإبادة جماعية ضد السكان الأصليين”. تصويرهم في الرواية هم في الحقيقة اقرب للشيطان من الجن. لأنه حسب التأويل الديني يوجد نوعان من الجن جيد وسيء أما جنجويد الرواية فهم شياطين لأن الشيطان كان مدحورا ومذموما. فقد أخرجه الله من الجنة ومغضوبا عليه إلى يوم القيامة. ليس وحده وإنما من آمن به. فمسيح دارفور أكد ” أهون لجمل أن يَلج من ثُقب إِبْرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله”.

شخوص الرواية، من الضحايا، هم يمثلون أهل السودان الضعفاء. وكأنهم جمعوا كلهم في “بورتراي ” (Portrait ) داخل صورة فوتوغرافية لوجوه بائسة وحزينة. كل فرد مرتاب، “ولا أحد يثق في الآخر “. كل فرد يمثل خطر يهدد حياة الآخر، سوداني يري نفسه هابيل والسوداني الآخر قابيل قد يقتله أي وقت، دون سبب ويترك جثته ملقاة . شيكيري توتولم يثق في إبراهيم خضر إبراهيم في أول معرفتهما ببعض، “لذا لم تتوطد علائق لا جيدة ولا حسنة من قبل، بني شكيري تُوتُوكوه وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين أحدهما وأي إنسان آخر. ونستطيع أن نقول: الأيام الأولى لهما في شعبة الاستخبارات شهدت شكوكا متبادلة بني الاثنين، ومشادات عنيفة. تردد في متابعة التعبير عما يفكر فيه. العمة خريفية لم تطمئن لعبد الرحمان خوفا من أن تكون وراءها قصة، كأن تكون، “ما يُحتمل أن يكون برطابرطا ( كائن يشبه الأنسان ينام بالنهار ويستفيق بالليل ويتحول لما يشبه حيوان مفترس لقتل الناس ويأكلهم دون أن يترك أثرا ) ليأكلها بالليل، لولا ذلك ما تأخرت في أن تأخذ عبد الرحمن معها لبيتها”.

حسب قولة جون بول سارتر، في سودان الرواية، تحول “الآخر جحيما”. ليس إلغاء فكري أوعقائدي فحسب وإنما أيضا إلغاء وجودي من الحياة. وتجسدت قولة الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز: “الانسان ذئب لأخيه الانسان”. لأن حسب رأيه الانسان أناني بطبعه وشرير وعنيف ومتوحش. وهذا جذري فيه. المفارقة أن شخوص مسيح دارفور طبيعيين عند الولادة. لم يولدوا أشرار قبل ظهور الجنجويد، وانما دفعوا للعنف كوسيلة للدفاع عن الحياة أوللثأر لحياة خطفت. فيضاف لضحايا لوحة مسيح دارفور هلعا آخر لم يظهرعند قتلى لوحة غيرنيكا . لأنهم مشتتين بين الطبيعة الفطرية الإنسانية التي ولدوا بها والسلوك العنيف المكتسب للدفاع عن أنفسهم جراء وحشية الجنجويد .

لو نقترب من الحياة النفسية لشخصيات مسيح دارفور، فإنها قلما تعرف الفرح والابتسام. دائما في حالة حزن وكآبة وغم وغضب متواصل. الضحك نشازا. الوحيد الذي يضحك، شارون، وضحكته غريبة عند سامعيها وكأنها في المكان والزمان الخطأ. تتساوى الشخصيات نساء ورجالا في المعاناة. لا يعرفون الحرية ويحرمون من امتلاك أي هامش منها حتى وإن كان التفكير فقط، ” لقد حيل بينهم وبني الأسئلة الفعلية أوطرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخص هم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرارا في نهاية المطاف”. دافع من دوافع السلطة لقتل مسيح دارفور هوتشجيعه حرية التفكير، ” لا يصبح حر َّ ا من لا يستطيع أن يتبني أسئلته من لا يستطيع أن يتبنى أسئلته. .. وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرار مثل طيور السمبر”. مسيح دارفور يمكن أن يكون المثقف الذي يحاول النهوض بوعي وتفكير أبناء بلده، ولذلك وجب قتله،” وبهذا يستحق صلبًا حزينا بائسا يجعل كل من يحاول أن يدعي النبوة __ وهم كثر في هذه الأيام — أن يفكر ألف مرة قبل أن يعلن ذلك”.

أكثرهم دفعوا للرعب والقهر والمشاركة في القتل رغما عن إرادتهم. كل أخذ مكانه في ونصيبه من جحيم لم يقترفوا إثما لدخولها. وأكثرهم قهرا هؤلاء الذين اعتدى عليهم الجنجويد وقهروا بالعيش كعبيد عند ألد الأعداء، ” وهم يعتقلون عددا من السكان الأصليين، يستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم، جنائنهم وأراضيهم، يغتصبون نساءهم”. الرجال لا يعرفون إلا الحرب وذكرياتها. فمنهم المدفوع للخدمة العسكرية التي تبدأ ولا تنتهي في الحرب، فصوروا كأنهم رهائن مخطوفين، “بكى فيها كل المجندين، عندما أقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن الروسية العجوز نحوما لا يعلمون من البلاد، لكنهم جميعا كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أوالغرب. .. وكانوا يعرفون أنهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا إذا كانت في الجحيم مدينةٌ بهذا الاسم”. كلهم يعرفون أنه لا فرار من الموت في الحرب، ” الليل في الصحراء بعيدا عن البيت لا يعني شيئًا غير العدم، والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك”. وما يجعل الحرب أكثر عبثية هوأن الجنود لا يعرفون أسبابها الحقيقية، “الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدوأجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبنَّاها “. إبراهيم خضر إبراهيم يفضل أن ينعت بالجبان ويطلق سراحه على أن يشارك في حرب لا يعرف أسبابها ولا يعتبرها تعبر عن قضية ما هويؤمن بها. بل يستهزأ بالبطولة والشهادة التي تكون ناتجة عن المشاركة في هذه الحرب. ومأساة إبراهيم خضر أنه مثقف ويؤمن بفكر جمهوري ديمقراطي في بلد الكل يحارب الكل، لا أحد يعرف ” شيئًا عمن يَقتُل أومن سوف يقتله هوفي آخر المطاف، ذلك الجندي الحزين وكان إبراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين توجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني تُرابهم “.

الضحايا دائما في رغبة للانتقام لعائلاتهم المقتولة ونساءهم المغتصبة وبيوتهم المحروقة. وهوما يبعث الإحساس أن الحرب تتمدد ولانهائية. منهم من يعبر عن ذلك وبشكل دائم مثل شارون، “يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أن أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضلاية”. ويكظم آخرون غيضهم ويأجلون تنفيذ انتقامهم مثل عبد الرحمان والعم جمعة ساكن. عبد الرحمان أظهرت أنها نسيت المجزرة التي تعرضت لها عائلتها. لكن في داخل أعماقها لم تنس ما حصل لها. فكان قرارها ألا تتزوج الا من يساعدها على الانتقام. طلبت من زوجها، ” طلبًا غريبًا ومباشرا وهما في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: إما أن ينتقم لها، أويساعدها على الانتقام، ولا خيار ثالث”. و تتحول الرواية إلى شكل من أشكال “مسرح الانتقام” الذي ظهر في بريطانيا في عصر النهضة، حيث نجد الشخصيات في حالة مستمرة في التخطيط للانتقام. داخل مسيح دارفور الكل ينتقم من الكل. القبائل التي كانت مسالمة وأهلها رافضين للحرب، ما يبقى منها ينتقم من القتلة الجنجويد، “تم إعدام الجنجويد والمجاهدين بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحا، طاليبن منهم في سخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة”. وهذا الأخير ينتقم لقتلاه، ” أخرج جنجويد من جرابه رأس زوجها، وقال إنه سوف يعلقه في باب بيته، إلى أن يأخذ بثأره”. الجيش النظامي يقتل القبائل المعارضة بمعية الجنجويد. ومن ينجومن تلك القبائل يبدأ في رحلة الانتقام. وهكذا تتواصل حياتهم داخل حلقة مفرغة لاتنتهي.

المطالبون بالمشاركة في صلب مسيح دارفور من الجنود والنجارين، هم أيضا مدفوعون لمشاركة في القتل. لا أحد منهم يستطيع الرفض ولو أن في قرار أنفسهم يعرفون أنهم يقومون بعمل غير إنساني، لأن المسيح لم يضرهم في شيء ولا يشكل خطرا على حياتهم، “العسكر ال ٦٦ لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم. إنهم من أسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق وتقيم الصلاة أيٍّا كانت، في الكنيسة أوفي الجامع أوفي أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تُقْتل البشرية”. وبعض النجارين يتطيرون من صنع الصلبان لأنهم يخافون من نتائج ارتكاب جريمة قتل، ” أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان… ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن؛ يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رؤوسهم”.

يتسم عالم لوحة غيرنيكا وعالم في مسيح دارفور بالعبثية ” Absurd”. يعجز المتلقي عن تبرير أوايجاد معنى لما حدث. المتلقي يختنق من البشاعة التي تغرق فيها كلها الكائنات الحية. فكلهم يتخبطون في المجهول واللامعنى لوجودهم. عندما ندقق النظر في غيرنيكا ، نرى الضحايا مرعوبين ومصدومين وقد يكون من ضمن أسباب حالتهم المأساوية جهلهم لما حدث. لم يستوعبوا بعد الأسباب الحقيقية لماساتهم، وهوما يعمق هلعهم. الشخوص في مسيح دارفور يواجهون المصير نفسه. فسبب الحرب مجهول واختلقته الحكومة من وهم. الحكومة تتعمد إبقائه غير مفهوم، وكلما جهل الناس هدف الحرب، طالت أكثر. يخوضون حربا أسبابها وهمية. الضحايا تسقط يوميا دون أن يعرفوا السبب الحقيقي لماساتهم من وراء الحرب. ويبقى السوداني مخدوع وموهوم ولا يكتشف السبب الحقيقي لما يحدث له، ” ومن الأهداف الثانوية التي تحققت للسلطة المركزية هي أن تبدوالحرب في دارفور كما لوأنها حرب بني مجموعتين وهميتين، وهما ما يُسمى بالعرب والزرقة”. ليس الأبرياء فقط يجهلون الحقيقة، القتلة أيضا يرتكبون جرائم في حق الإنسانية وهم يجهلون أنه وقع استغلالهم والاستهانة بهم كبشر قادر على التفكير. فالجنجويد “يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه؛ لأن السياسيين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يفصحون عنه في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون، أولخوفهم منهم إذا فهموا”.

السبب الرئيسي للمأساة الانسانية، في غيرنيكا و مسيح دارفور وفي هذا العالم العبثي هواحتقار الذات البشري. لا حرمة للكائنات الحية من البشر والحيوانات في لوحة غيرنيكا . وحشية المعتدين تركتهم أجسام مشوهة وأشلاء متناثرة. لم يهتم القتلة لما سيحدث لهؤلاء الأبرياء العزل من النساء والأطفال الضعفاء. يصبح الكائن الحي هش وبلا قيمة وكأنه قشة أمام سادية القاتل. في مسيح دارفور ، الجندي لا تعتبره الدولة كائنا بشريا. تتصرف الدولة في مواطنيها كمن يحمل حقدا لأبنائه. وهوما يجعل أي جندي، مقبوضا عليه في الخدمة العسكري، لا يرى لنفسه أي قيمة انسانية وانما مجرد كائن يساق الى أهوال الحرب ” فردا يؤدي الخدمة الوطنية مكرها ومجبرًا، ويُساق إلى ميدان المعركة جنديٍّا محترفً كما تُساق النِّعاج إلى السلخانة”. الخدمة الوطنية تصبح طريقة غير مباشرة للاعدام للتخلص من أبناء السودان. وان رجعنا لفكرة تقنية التناص، فان بركه ساكن التجأ إلى ” الكوميديا السوداء” أو”الكوميديا القاتمة”، التي استعملها كتاب الأدب والمسرح العبثي، للتعبير على فضاعة الضعف الإنساني أمام القدرة اللانهائية للشر والنزعة المرضية للقتل دون شفقة. والتي يكتسبها الكثير من الناس يشاركوننا العيش في هذا العالم. الكوميديا السوداء تعبر عن قتامة المواقف وعبثيتها. الدولة تجهز جيشا كبيرا للقضاء على مجموعة صغيرة ومسالمة، ” كل قوته التي لا تحمل أيٍّا من الأسلحة هي ١٥ رجلا ُ وامرأة واحدة،”. كما وصف سوداوية الروح البشرية عند القتل واستعمل كثير أسلوب التضاد بين اللفضي والمعنوي الذي يأديه، ” سيجدون جنودنا في انتظارهم. والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي”. وليؤكد تعطش المساهمين في الإعداد لصلب المسيح، يستند بركه ساكن على الكوميديا السوداء، باستعماله أسلوب وصف يلائم فنانا وهويصنع فنا إنسانيا، ليصف شخص مقبل على قتل ذات بشرية، ” الشخص الذي صمم طريقة القضاء على الرجل كان يمتلك خيالا خصبًا يُحسد عليه كما أنه يتسم ببرود أعصاب وإصرار على القتل بصورة مدهشة”.

كل ما نستخلصه من احتقار الجنس البشري، من خلال رسم وتصوير عذاب ومعاناة الذات الإنسانية ، في اللوحة والرواية، أن الإطار الإنساني خال من الدين والأخلاق. لا انطباع للمتلقي بوجود الاه يحكم هذا العالم. الجوالعم يوحي أن العالم يحكمه الشرير والمجرم دون خوف من عقاب الاهي. قانون الشر هوالمهيمن ولا من مغيث للضحية من الظلم. لا تحوي غيرنيكا أي إشارة لله. الضحايا تركهم المعتدي في صرخة أبدية وجحيم مأساة لا فرار منه. وهذا ما نجده تقريبا في مسيح دارفور. رغم الإيحاء لممارسة بعض الشعائر الدينية أوتلفظ مفاهيم دينية، إلا أن بشاعة المجازر ومعاناة الشخوص ينقص أويلغي قيمة الدين. الجنجويد هم من يقررون من يعيش ومن يموت ولا الاه رادع لهم. فمشهد التنكيل بأم الطفلين لم يحدث لهم بعده أذى بل استهزأوا من فكرة الله القوي والعادل، “قبض الأصغر ابن السابعة، سمته أمه أحمد، وحاول ذبحه، قالت له الأم: ما تخاف الله يا راجل؟ رد عليها وهومنشغل ْ بتخليص الطفل من يدي أمه اللتين تقبضان عليه بشدة: الله؟ منوالله؟ اللي قتلناه في وادي هور قبل أسبوعين وضحك في وحشية “. وواصلوا تعذيبها دون رحمة أوشفقة ولا خوف من عقاب الاهي، “وقالت إنها أحست بأن الأرض تَميد تحت رجليها، وكانت تظن أن الله سوف يخسف بالجنجويد الأرض أويحرقه حيا لنطقه بهذا الكفر البين، ولكن الجنجويد في لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تماما، رمى بالرأس بعيدا وهويصرخ مكبرًا في هستيريا، بل جنون وقح”.

الجو العبثي الذي طغى على غيرنيكا على مسيح دارفور يثير في المتلقي الشعور بالعدمية ” Nihilism “. من المؤكد أن المشاهد للوحة غيرنيكا فور عرضها في الثلاثينات أوبعدها، أصابت المشاهد بالإرباك. وحركت فيه التساؤل عن معاني القيم الإنسانية كالحب والتآخي والخير. وفي الآن نفسه يصاب المشاهد بالإحباط واليأس من وجود أي قيمة للوجود الإنساني. وينفي ويرفض الأيمان بأن للعالم قيمة أخلاقية تسيره. يتوصل المشاهد إلى أن العالم تسيره قوى الشر والخراب. أيضا، قارئ مسيح دارفور لا ينجومن الإحساس بالعدمية واليأس من جدوى الأخلاق والقيم الإنسانية. لا يمكن للقارئ أن يتجنب أويقاوم الشعور بالتشاؤم والإحباط أمام الظلم المسلط على الضعفاء. قوى الظلم تبيد ضحايا دون سبب ولا عدالة أخلاقية تتحقق في كامل الرواية. لوكتبت مسيح دارفور في سياق للأدب الإغريقي، لاستنتجنا أن مأساة سودان الرواية تعمقت بفعل ظلم الآلهة. حتى أنه قد يصرخ القارئ ” أين الآلهة؟ لا توجد آلهة. الآلهة غير عادلة. أنا كفرت بهم”. وكفرت العمة خريفية في الرواية لما شهدته من وحشية وسادية وظلم العالم عند سماعها قصة أم الطفلين، ” قالت العمة خريفية لنفسها: ما في عدالة، ما في «رجالة»، ما في إنسانية، ما في ما في ما في . . . ؟”. ولقد خصص لها بركه ساكن فصل من الرواية عنونه :” لماذا كفرت العمة خريفية؟ “. لونرجع إلى الآلهة في الأسطورة نجد آلهة الانتقام والعقاب وهن ثلاث آلهة إناث Erinyes The ويدعون أيضا Furies The. ومهمتهن الأساسية معاقبة ولعن القتلة والمجرمين. وقد كانت الآلهة تسلط عقابها على المعتدين. يصاب القتلة بالأمراض والعلل والهلاك حسب الأسطورة. المفارقة الماساوية في سودان الرواية، العزل والأبرياء، هم الملعونون. لم يرتكبوا ولا خطيئة من الخطايا السبع (الغرور والجشع والشهوة والحسد والشراهة والغضب والكسل). يمكن أن تكون خطيئتهم أنهم لم يغادروا أرضهم ليتركوها للغرباء أوأنهم يسكنون أرض بها ماء، ” منبع مائي صغري، وكان هومن الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه”. لكن الآلهة أخطأت التمييز وعاقبت الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ. فالضحية الإغريقي إن ظلم يطلب العدالة من الآلهة لتلعن المعتدي. في السودان الإلهة سلطت لعنتها على الضعفاء والمظلومين ليحكم عليهم بالعذاب والجنون والمعاناة لتزر وازرة وزر أخرى.

كتقنية رسم و كتابة فان الرواية واللوحة لا يختلفان. فالتقية الفنية عبرت بإتقان عن الخراب الموجود في الأثرين لأنه وبحسب أرسطو: “ليست مهمة الفن تقديم الشكل الخارجي للأشياء، وإنما تقديم المدلول الداخلي لها”. الفوضى تعم العملين. المحتوي لا يدور حول محور واحد. لا توجد صورة مكتملة للأجسام في اللوحة أوتدرج في رسم الخوف والذعر. وتكسر المبنى الكلاسيكي للرواية في مسيح دارفور. فتصميم سير الأحداث في الرواية لم يتبع بداية وعقدة وحل العقدة. ولم يرسم محور مركزي تنبني عليه حبكة الرواية. أسلوب السرد جعل من أحداث تصل منتهى التوتر من بداية الرواية حتى نهايتها. كما نعثر على نمطين من الرؤية الروائية. نجد أن معضم أحداث الرواية سردت عبر راوي بضمير الغائب “هو”. لكن نتفاجا بتغيير الراوي وأصبح بضمير المتكلم “نحن”. لا يعرف القارىء من الراوي الحقيقي للرواية. هل هوفرد من الجنجويد أم من الجيش النظامي أم ممثل للحكومة، ” فتأكد لنا أن لا خطر من وراء امرأة بذاكرة مشوشة، فأطلقنا سراحها”. و”دفنا ولدها وجدته في قبر واحد، حِفر عند أعلى التل الرملي من حيث قاد زوجها مقاومتنا وقتل جنجويدنا التسعة”.

تنتمي لوحة غيرنيكا الى المدرسة التكعيبية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين وأبرز روادها بابلوبيكاسووجورج براك. وقد كانت بداية للقطع مع مدارس الرسم التقليدية التي سبقتها والتي كانت تهتم برسم الأجسام طبيعية وكاملة عن طريق محاكاة الأشكال الطبيعية. اعتمدت المدرسة التكعيبية على الأشكال الهندسية لرسم الأجسام. فاستعمل الخط الهندسي والمكعب والمربع والاسطوانة. وامن رساموالتكعيبية بضرورة رؤية الأجسام من جميع الجوانب والزوايا. ولا يتحقق ذلك إلا بتحطيم الشكل الخارجي للجسم وبروزه في شكل أجزاء وقطع. وهاته التقنية تخدم هدف بيكاسولتصوير المجزرة. فمن غير المنطقي أن تترك القذائف بعدها الأجسام منظمة ومرتبة وكاملة وأعضاء متصلة ببعضها البعض، دون أن تقطع وتفقد شكلها الطبيعي. ونظرا للإحساس بالموت والهلع والصراخ الذي يعم المكان كانت الأجسام في لوحة غيرنيكا في وضعية فوضي واضطراب. وهوما يتلائم مع التقنية التكعيبية. فهي تظهر أجزاء من الجسم(رأس فقط) ومنحنية ومنحرفة ومعوجة وخطي مع الأرض.

اعتمد بركه ساكن على الكثير من الأساليب الأدبية ليوصل رسم حالة الخراب والفوضى في عالم الرواية. استند من بينها على تقنية ما بعد الحداثة ” Postmodernism” ومنها تقنية وسمة التجزئة ” Fragmentation “. مسيح دارفور هي تخلي عن النمط السردي القديم (سرديات عريضة ومتتابعة) وابتكار الرسم السردي لنشاهد الدمار. هذه التقنية الأدبية لرواية ما بعد الحداثة توصل إلى المتلقي حالة التشوه والانكسار لشخوص الرواية في مسيح دارفور. الشخوص تظهر ثم تأتي لاحقا بقايا قصصهم مثل شخصية إبراهيم خضر ابراهيم وشيكيري توتو. لم تكن قصصهم متتابعة وجلية من الأول وإنما انقسمت على كثير من الأجزاء. وترك الكاتب قصة جربيقا جلباق لينهيها في فصول أخري، ” سنلتقي بأبي دجانة أوجربيقا جلباق هذا في أزقة أخرى من الحكاية”.

الأحداث ليست متسلسلة أوتقسم علي أجزاء كبيرة وإنما نلملم شظايا مبعثرة ومفتتة لا نعرف أين ابتدأت قصصهم. القصة الدرامية آتية من تاريخ مجهول ولم تنته. وكأن القبائل السودانية منقسمة وفي حالة تأهب للحرب منذ القديم، فقط بتوفر سبب، ينفجر الكره والدمار. الرواية تبدأ بفصل تقريبا عند اقتراب النهاية ولكن لا يسترسل الكاتب في سرد الأحداث بل قطع تسلسلها. فرقها على فصول كثيرة لها علاقة بأحداثه كالتقاء شخوص يعرفون بعضهم من قبل وكانوا موضع تناول في أجزاء متفرقة من الرواية وتفرقوا مثل شارون وإبراهيم خضر وشيكيري توتوومريم المجدلية وعبد الرحمان. كما توجد فصول أخرى إما متزامنة معها أوسبقتها في تاريخ السودان لا يوجد رابط مباشر بينها. كل الأحداث تتأرجح داخل مد وجزر سردي غير مستقر.

التدفق المتقطع لسرد الأحداث هوالأسلوب الملائم لوصف الشخصوص الروائية. كل الشخصيات تفتقد التوازن النفسي جراء الحرب. نفسيا تهم مشوشة ومشوهة. وهذا ما يقابل الأجسام المشوهة والمعوجة والناقصة في لوحة غيرنيكا. اللاتوازن هوما يوحد شخوص الرواية. نجد من وصل إلي التشتت وفقدان العقل البشري كليا وهم المجانين، “وكما هومعروف أن نيالا بها هذه الأيام عدد هائل من المجانين؛ إنهم ورثة ً الحروب، من كل نوع وكل عمر”.

ومنهم من ضل يعاني من تبعات صدمة نفسية ” Trauma Psychic” و لم يشفى منها، نتيجة لما تعرض إليها، فتصبح الذاكرة عبئا عليه ومصدر عذاب. عبد الرحمان تخاف أصوات الطائرات لارتباطها بالمجزرة التي عاشتها، “أما عبد الرحمن، فعلى الرغم من كبر سنها مقارنة بغيرها ممن خبروا تجربة حرب الطائرات، ما زالت تحس بالرعب يتملَّكها عندما تسمع صوت الطائرة، أوتراها”. وكذلك الخل جمعة ساكن لم يستطع نسيان ما حدث لأبنائه الذين قتلهم الجنجويد ودائما في انتظار الانتقام .

كما تعاني بعض الشخوص، مثل شارون وعبد الرحمان، من ازدواجية في الشخصية واستبدل حديثا بمفهوم “اضطراب الهوية الانشطاري”. ويعني أن المريض ينتقل من شخصية إلى أخري أوإلى عدة شخصيات عند حالات الضغط النفسي. ويرجع المختصين أسباب المرض تعود إلى تعرض المريض إلى أذى نفسي أوجسمي أوجنسي وخاصة في الطفولة. أصبح هارون يلقب بشارون لعنفه. وشارون من بين الشخصيات الذين دمرت الحرب حياتهم وغيرت مسار حياتهم. فهومتعلم ومثقف ومتخرج من كلية الاقتصاد. لكن ظلم الجنجويد حوله إلى شخص متعطش للقتل، فيعطي انطباع اللاتوازن في سلوكه، “وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم”. فهويجمع صفتين متضادتين، “رقيقا وشر سا”. رسم صورة عبد الرحمان مبني على التضاد وهي أكثر شخصية تعاني من التشظي والاهتزاز النفسي. فهي الفتاة الجميلة والمثيرة “كانت رقيقة جدا وناعمة، وبها أنوثة طاغية وملفتة “. ورغم قدرتها المتواصلة علي إغراء زوجها واستمتاعها بممارسة الجنس، فإنها أيضا تحمل نزعة للقتل والتمثيل بالجنجويد، “بدت له كوحش متعطش للدماء، كثائر مجنون لا يرى غير الأعداء والمكائد”. من أجل الوصول إلى هدفها وقتل عدد محدد من الجنجويد ترغم نفسها على ممارسة الجنس معه رغم كرهها المرضي له وتتحمل رائحته القذرة وجسده المقرف. ثم تتحدث عن استمتاعها بقتله وتشعر أن القتل الوحشي هوما يحقق الشعور بالإنسانية، “كنت باردة الأعصاب كأنما لوكنت أقتل كل يوم جنجويدا، أحسست بلذة عظيمة، إنني الآن أنتقم لكل أسرتي وأقاربي، أحسست بأني الآن إنسانة”. وتصل بذلك الى درجة تراجيدية من الاضطراب والتشوه النفساني بتحولها من وضعية الضحية إلى تقمص سلوك الجاني. كما أنها سمت نفسها عبد الرحمان وهواسم ذكوري ورفضت إبداله وكأنها ترفض جنسها كأنثى. وهوما يجعلها منقسمة إلى جنسين أنثى بالولادة وذكر بالاسم. وهذا سمة من سمات التصدع والتشتت في إحساس الفرد بهويته. ويوجد جيل كامل من الأطفال نصف إنسان ونصف وحش وهم أبناء نساء وطفلات قام الجنجويد باغتصابهن.

مرض “اضطراب الهوية الانشطاري”، في مسيح دارفور، يعاني منه الضحية والجاني على حد السواء. جربيقا المجرم أيضا يعاني من ازدواجية في الشخصية فهومجرم وقاتل وسادي اجرامي بمعني التحليل النفسي. لكنه يبدوضعيفا وإنسانيا إذا شهد موت أومرض شخص ن مجموعة محددة لديه، ” ولا ترف له عينا ما كان، بشرا أوحيوانً ُّ الأوامر، ولا يتردد إطلاقًا في قتل أي شيء كائنً أويرتجف له قلب أويرق ضمير، وعلى الرغم من ذلك فهوسريع البكاء إذا مات أحد أقاربه أومعارفه أوإذا مرض ولومرضا طفيفً هينًا”. وله أيضا ملامح لمرض الانفصام في الشخصية أو” الشيزوفرينيا Schizophrenia/ ” ومن أعراضه اضطراب المزاج والوجدان. فهوقام بقتل الأبرياء بدم بارد وعند انتهاء المجزرة بكى، ” بكى جربيقا كثيرا”.

الجنجويد رسموا وحوش في هيئة إنسانية فهم أقرب للحيوانات منهم إلى الجنس البشري، ” بصورة عامة كان أقرب للذئب منه إلى الإنسان”. ويمتلك الجنجويد صفة “أكلي لحم البشر” “cannibal” ” أكل قطعة لحم نيئة أخرجها من ذات الجراب، إنها كبد الإمباية، سوف أقتل: ألف ألف ألف ألف ألف إمباية”.

كما عانى بعض الشخوص من التشويش النفسي والتصور الرهيب لأفكار مرعبة جعلتهم مضطربين. شيكيري توتوأصبح ضحية لنوع من الهلوسة عند تصور زوجته تأكل كبد جنجويد، تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر، ببساطة الفكرة كانت تُخيفه”. وأم الطفلين تبلغ ذروة التمزق والتشتت والعذاب الإنساني الذي لا يحتمل، بتصورها ما حل لولدها الذي هرب من الجنجويد ” كانت صورة طفلها محمد وهويهرب لا تفارق عينيها، لا أدري هل قضوا عليه أم أنه استطاع أن ينجو، ولكن كيف ينجو؟ وضعت عشرات التصورات لنجاته، ولكنها كلها انتهت إلى نهاية مأساوية “.

يعتبر بعض النقاد أن وجود والنافذة وضوء من المصباح، في لوحة غيرنيكا، يرمزان إلى أمل النجاة. وتضمنت مسيح دارفور بعض من نفس الحياة. هناك الكثير من النساء الجميلات مثل عبد الرحمان ونساء مقاتلات ومريم المجدلية التي سماها مسيح دارفور، ” مريم، تلك المرأة الجميلة” كما توجد بعض المشاهد لحياة شبه طبيعية للشخوص وإن حرموا منها كثيرا. مثل استمتاع شيكيري توتووعبد الرحمان بالجنس، “لقد افتقد شيكيري النساء كثيرًا، يمتلك الآن رغبة طازجة لأجلها وشهية لا تحدها حدود. أما هي فلم تمارس الجنس برغبتها الكاملة إلا اليوم”. إلى جانب عائلات أخرى واصلت حياتها في المعسكر، “بها نساء جميلات محاربات وزوجات في نفس الوقت، يقمن بواجب الزوجية بمتعة ٍ ويحاربن بشرف وبسالة”. رغم الحرب، يمتلك الشخوص بعض الأحلام . شارون يحلم بتحرير ضلاية ودارفور. وتحقق حلمه بطرد الجنجويد من ضلاية، ” طردوا الجنجويدُ والحكومة من ضلاية”. مريم المجدلية لم تتزوج لأنها ربطت زواجها بتحرير دارفور أوظهور المسيح، ” فهي تؤجل زواجها دائما لحين تحرير دارفور أوظهور السيد المسيح، أيهما أقرب” . والتقت بالمسيح وانجذبا لبعضهما. و عبر إبراهيم خضرابراهيم عن أحلامه وإن كانت بسيطة بعد أن كان يائسا في الحرب والأسر، ” قال لقائد المنطقة العسكرية العميد الشاب، إنه يريد فقط أن يعود لأسرته، ها هي سنته العاشرة التي قضاها في ميدان القتال، وتعرض للموت أكثر من عشرين مرة، أسر مرتين، وكاد أن يقتله الشبحان بالأمس، وإنه يريد أن يرى أمه وأباه، يريد أن يتزوج وينجب أطفالا ً مثله مثل الآخرين”. المناظرة بينه وبين المسيح هي تمثل بقعة ضوء وهواللجوء ولوجزئي للحوار بدل الحل الوحيد القتل. إبراهيم خضر من الشخصيات التي تحمل أملا في الرواية وفكره هوالحل الوحيد الذي يؤدي إلى السلام والنجاة من الحرب. فهوانعكاس للضوء والنافذة في لوحة غيرنيكا، ” أولا إبراهيم خضر ليس له قناعات مسبقة بأن هذا الرجل كاذب ٌ أوصادق ، نبي أم غير نبي، ويظن أن ذلك لا يهمه كثيرا بل ليس من شأنه الخوض في حريات الآخرين “. وبالطريقة نفسها، بقبول الآخر، تنبني رسالة مسيح دارفور. مسيح يدعوللحب والإخاء ونبذ العنف والقتل. امن به الكثير أصدقائه وأعدائه. رسالته التي تدعوإلى التسامح، كما يقول، ” نحن دعاة حياة ولسنا دعاة حرب واقتتال”، كان لها تأثير واسع. الذين أتوا لقتله آمنوا به كلهم، “ولكنها ألقت أسلحتها جانبًا وآمنت به على بكرة أبيها” . وقد يذهب البعض أن هذه الدعوة إلى السلام يمكن أن تكون بداية انفراج للمأساة وانبعاث سودان جديدة وشبه طوباوية بلا ضغائن ولا جراح، الكل متوحد في وطن واحد .

لكن ان طبقنا مبدأ نظرية التلقي ” Reception Theory “، فان أكثر مشاهد ي اللوحة أوقراء الرواية سرعان ما يفقدون بريق الأمل. قد يرى المشاهد أوالقارئ، الذي لم يعرف الحرب في بلاده، نقطة ضوء لإمكانية بناء عالم جديد، يعاقب الأشرار، لكن المتلقي الذي عاش الحرب أوفهم أهوالها عبر أشخاص عانوا من تجربتها، لن يرى لتفاؤل في العملين. هناك تفاصيل داخل العملين لا يستطيع المتلقي تجاوزها، حتى وإن لم يقرها الرسام أوالكاتب في العمل وترك غموضا في المعنى. يتوقف المتلقي عند هذه التفاصيل الفنية ويستنتج المدى الذي تذهب إليه. عندما نرى المجزرة في اللوحة نشعر بأن الألم يفيض من الضحية ويصل المشاهد. ونقف على حقيقة تكوين الإنسان المبنية على الشر ولا تنتهي إلا بانتهاء وجود الجنس البشري. فمجزرة غيرنيكا سبقتها وستعقبها مجازر أخرى في التاريخ الإنساني . مما يعني أن الكثير من البشرية ستبقى عالقة في الرعب مثل ضحايا اللوحة حتى الوصول إلى ضحايا الرواية. لا يوحي الرعب والفزع في عيون ضحايا غيرنيكا بالانتهاء. الفانوس في السقف، في لوحة غيرنيكا يمثل القنابل. وقد أجمع الكثير أن الألوان المستعملة في اللوحة كلها تشير إلى غياب أي بصيص أمل: اللون ألأبيض يحيل على الموت و يزيد الأسود والرمادي بتدريجاته من تراجيدية المأساة. لا وجود لألوان أخرى مما يؤكد استحالة وانبعاث الحياة في هذا الإطار الفوضوي والمأساوي.

في رواية مسيح دارفور وداخل هذا الكم من الدمار يمكن تفسير مشاهد الحياة أنها فقط لحظات من حلم قصير برز من بين أكوام من الكوابيس لدى كاتب الرواية أوقارىء متفائل. سودان الرواية هي ديستوبيا ” dystopia ” بامتياز. فهويحوي قتلة ضمن تنظيمات متجردين من الفضيلة والإنسانية ويحركهم الشر المطلق. ساهموا في إبادة لقبائل. فوضى إنسانية وتواصل الخراب والهدم نتيجة الشر الذي يحمله القتلة داخلهم. الشعور بغياب الأمان يمتد على كامل الرواية. وطن يشرف على الضياع وشخوصه عالقين في جحيم كل باب يؤدي إلي باب جهنمي آخر . فيصبح أمل البعث من جديد ونشر الحب والإخاء مجرد أضغاث أحلام في جوعقيم. السودان ييحكمها القتل والشر. تغيب الدولة أمام قانون وحشية الجنجويد، “من أجل الوصول لقتلة الجنجويد، اللذين أقسم قائدهما برأس أبيه ثم بالله، إذا لم تسلمه الحكومة قاتلهما أوقتلتهما، فإنه سيقتل — عشوائيٍّا — على الأقل مائتين من المواطنين، بسوق نيالا والشمس في قُبة السماء، لا فرق بين طفل ورجل وامرأة أوبنت عرب أم زرقة ولا أم خفر”. السودان أرض ملعونة مثلما حل العذاب والطاعون والأوبئة و الموت على مدينة طيبة ” Thebes ” في مسرحية سوفوكليس، أوديب الملك. سكان مدينة طيبة دفعوا ثمن خطيئة أوديب لقتل أبيه و زواجه بأمه . أوديب اعترف بخطيئته وفقأ عينيه. وان لم يكن جرمه بل كانت نبوءة ولا يقدر عن تغيير قدره. في السودان قاموا بتنفيذ قتل غيرهم من الأبرياء. لكن يحاول الخطاءين والمعتدين تبرئة أنفسهم والتنصل من مسؤولياتهم بمحاولة اتهام طرف آخر وراء المجازر. العسكر يرى المذنب القائد الميداني لأنه من يصدر الأوامر بالقتل، ” ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هوالقائد الميداني، وهوالوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر”. القائد الميداني يتهم القائد الأكبر، “القادة الميدانيون بدورهم يحملون جرم ما يفعلون لقادة أكبر يتسكعون في المركز”. القائد الأكبر يبرر أن السياسي هوالسبب، ” هؤلاء يقولون إن القاتل هومن أشعل الحرب؛ أي ذلك السياسي الرقيق “. السياسي يرجع السبب وراء الحرب لأطراف أخرى، “والسياسي الحصيف يقف وراء المايكروفون قائلا: أمريكا وإسرائيل — وأخريًا أخذوا يُضيفون حكومة جنوب السودان — وراء هذه الحروب”. التنصل من المسؤولية يجعل الضمير مخدرا ويدفع إلى تواصل المجازر والحروب إلى ما لانهاية.

لا مستقبل للشباب ويصبحون أسرى عند تنظيم كانوا يحاربونه ولا يعتبرونه عدو. ومنهم من بدأ في الثأر داخل تنظيم. ويبقى الجميع في حلقة مأساوية مفرغة، لا خروج ولا منفذ منها، “الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات، بالرغم من الحراسة المشددة ة التي به، إلا أن المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه، فإنه لا محالة مواجه للموت في معركة ما، ضد سودانين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أوصحراء ما”

تغيب الألوان التي تحيل على الحياة أوالربيع. مثل صور حرث الأرض أوزراعة أشجار وانتظار المحصول وتعاقب الفصول أوتزاوج بين الحيوانات. قد ينتهي النسل في أي وقت. الموت يحصد الجميع ليمحي عائلات بأكملها مثل العم جمعة ساكن، قتل أطفاله جميعا وعبد الرحمان وجدت بين أشلاء عائلتها. السودان في الرواية تفقد يوميا النساء(رمز الخصوبة والولادة) والأطفال (رمز الأمل وبناء المستقبل وتواصل الأجيال ). كل التفاصيل توحي بجومن التشاؤم ” وباندثار عاجل وآني للعالم.

تشترك اللوحة والرواية في تصوير قبح وحشية الحرب وما تتركه من دمار للإنسانية. وإن كان في الحقيقة عملين فنين من خيال الرسام والروائي، إلا إنهما وسيلة أووسيط فنيين لإيصال صورة واقعية. يقول بيكاسو: نعرف جميعاً أن الفن ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”. الحقيقة التي تعري القبح الداخلي للإنسان وساديته واستعداده لقتل الأخر. اشترك بيكاسووبركه ساكن من خلال لوحة غيرنيكا ومسيح دارفور ، في اهتمامهما بما يجري في عصريهما ورفضا الظلم والموت الذين دمرا الحياة الإنسانية. لم يقفا محايدين وصامتين أمام دموية المعتدين. الفن هومناداة للحفاظ على كرامة الجنس البشري وبقية مكونات العالم لأنه كما عبرت عنه يوكوأونو:” إذا كانت الإنسانية ترغب رغبةً أكيدةً في الاحتفاظ بحريتها وكرامتها، فإن عليها أن لا تقف موقفاً محايداً من المشاكل الاجتماعية والسياسية، والفنان هوأكثر البشر إنسانية، ولهذا فإن من واجبه أن يرفع صوته عالياً مدافعا عنها، هاباً لنصرتها، عندما تهددها قوى الجهل والبطش الفن هوطريقة للنجاة ”

ما يصل اليه المتلقي، عموما، من العملين أن غيرنيكا اللوحة وسودان الرواية أصبحتا مثل الأرض العقيم التي تحدث عنها ت. س. اليوت في الأرض الضائعة ، The Waste Land أرض لا يمكن أن تنتج حياة ويستحيل العيش فيها. ويبقى المعنى الدقيق للعملين غامض في ذهن المشاهد للوحة أوقارئ الرواية. ولا يمكن الاتفاق على تفسير واحد لمعنى العملين الفنين. ويمكن أن نرجع ذلك إلى محتوى الأثرين فهما انعكاس لعالم فوضوي، يغيب فيه المنطق الإنساني في عالم عبثي. إذ يقول بيكاسوعندما سئل “لماذا بعض لوحاته غير مفهومة ؟ ” أجاب: “العالم بلا معنى.. لماذا تريدون مني أن أرسم لوحات ذات معنى”.

عالم العملين الفنين وحشي وقاتم و سوداوي، تستحيل فيه الحياة. لكن، من القبح يولد الجمال، جمال الإتقان الفني. وكما يرى أرسطوأن محاكاة الأشياء القبيحة والبشعة تستطيع أن تمتلك الجمال. ويمكن تعليله بإيمان بيكاسووبركه ساكن بالقضية الإنسانية التي اعتنقاها وهوإن جمال الأثر الفني مرتبط بحب الفنان للموضوع وهذا ما أشار إليه رالف والدوإمرسون :” في الفن، لا يمكن لليد أن تنجز أي شيء جميل لم يستطيع القلب حتى ألان على الشعور به”. ورغم القبح الطاغي في اللوحة والرواية، فان المشاهد والقارئ لا يرفضهما بل يتقبلهما ويحاول فهم محتواهما حتى وإن شعر بالكآبة. يقول رولان بارت: “الأدب هوألا أستطيع أن أقرأ دون ألم ودون اختناق . “. وهذا نابع من أن وحسب فان غوخ: “للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك”. أوكما يقول محمد رضا شكري”هذه هي مهمة الفن: أن نجمّل الحياة، حتى في أقبح صورها”.

لا يقتصر إنتاج الجمال في لوحة غيرنيكا أومسيح دارفور على الرسام أوالكاتب بل ينتقل إلى القارئ. وهوما عبر عنه رولان بارت ب”موت المؤلف”. بهذه النظرية النقدية، يتحرر المتلقي من حضور ورؤية مؤلف العمل الفني. ولأنه لم تعد مهمة القارئ التلقي السلبي للعمل الفني وإنما صارت أكثر فاعلية، في تقصي المعاني والدلالات داخل اللوحة أوالرواية. وبذلك تتحقق “لذة النص” حسب تعبير رولان بارت. وهذا في الغالب يتوقف على قدرة المتلقي وإلمامه بالتقنيات الفنية التي استعملها المؤلف ليستطيع فك غموض وشفرات معاني النص. فكلما كانت ثقافة المتلقي الفنية عميقة، زادت جمالية العمل و”لذة النص”. لأن مهمة القارئ أوالمشاهد هي “العبور والاختراق” وليست النظرة السطحية للمشهد في اللوحة أوالقصة داخل الرواية. وكما أكد رواد التفكيكية “Deconstruction “، أنه لايوجد معنى موحد ومنسجم داخل العمل الفني. كل عمل فني مبني على تناقضات لانهائية للمعاني التي يحملها مما يظهر أن أي نص يحمل بناء مفكك. ولا يحمل العمل الفني محور أومركز يدور حوله معنى واحد للتأويل. وتعول التفكيكية على المتلقي على كشف الكثير من المعاني. تتحول السلطة على النص من الكاتب الى القارئ. ولهذا يتغير تقييم قيمة الإتقان الفني و المعني الإنساني في لوحة غيرنيكا أومسيح دارفور .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علجية حسيني ( تونس)

الرواية نت – خاص

الفصل الأوّل من رواية “أعشقني”

$
0
0

الفصل الأوّل: (البُعد الأوّل: الطّول؛ في امتداد جسدها تسكن آمالي كلّها، ويغفو بدعة طوق نجاتي)

جسدها العاري المسجّى على سرير أبيض عارٍ إلاّ منها هو خصمي في هذه اللّحظات،ولكنّني لستُ خصمه،بل المنتظر له بلهفة مجنونة تملك أيادي متعطّشة للاحتواء، لا أريده حيّاً وشبقاً ومُشتهىً يضجّ بحرارة الحياة وجمال الأفعال والتّفاصيل، بل أريده تماماً كما هو الآن؛ أريده دون حياة أو غدٍ أو قادمٍ، أريده بضجعةٍ أبديّةٍ لا تملك بعثاً إلاّ لي وبي، ملامحها الغارقة في سلام عجيب لا تتناسب مع عذاباتها الطّويلة على أيدي معذّبيها، لعلّ جسدها الصّغير الناّفر الثّديين الضّامر البطن البادي النّحول وحده من يفضح دون خجل أو خوف رحلتها الطّويلة مع العذاب عبر الكثير من الكدمات والجروح والحروق، لو كانت الظّروف مختلفة لما كنتُ قبلتُ أبداً بهذا الجسد الصّغير النّحيل الأسمر الذي لوّحته الشّمس بتفنّن نادر، وشوّهتهُ يد التّعذيب بجور غامر بديلاً عن جسدي الممتدّ في أفق الجمال الذّكوريّ والتّناسق البديع والشُّقرة الغارقة في حمرة شهيّة متوارثة في جينات أسرتي التي احترفت شراء أجود أنواع المنيّ المنحدر من السّلالات الشّقراء الهجينة،ولكنّها الأقدار هي من جمعتنا في هذا المكان الرّهيب متقابلين على سريرين بجسديين عاريين إلاّ من انتظار قدريّ ساخر ومحموم.

فاتني أن أسأل عن اسمها، ومن يهمه أن يعرف اسمها الآن؟ فقط هي رغبة الحياة والفرار من الموت من تهصر لحظاتي بيديها الجبارتين المنفلتتين في العدم، والعابثتين بالخراب، وتنفتح بفيه أحمق على أسئلة الوجود والعدم كلّها.لعلّها هي من ترغب في هذه اللّحظة في أن تعرف من أكون، أتراها كانتْ ستهبني جسدها ليكون وعاءً لي لو كانت حُكّمتْ في هذا الأمر؟ أم ستكون عصيّة عنيدة كما هو شأنها في الحياة والنّضال والرّأي والموقف؟ يا لها من أقدار عابثة حدّ المجون والعهر! هاهي تلك العنيدة القادمة من غياهب الزّنزانات الانفراديّة في معتقلاتنا السّياسيّة في أقاصي كواكب المجرّة تترجلّ عن صهوة كبريائها ورفضها وصمودها بعد طول عناد، وتلفظ أنفاسها الأخيرة على أيدي جلاديها دون أن تتراجع عن أيّ موقف سياسيّ، أو عن رأيّ لها معارض لسياسة حكومة دربّ التبّانة.

قيل لي إنّ بنيتها الضّعيفة خلاف مراسها وعزيمتها وإصرارها قد جعلتها لا تصمد أكثر من أيام قليلة أمام التّعذيب، وشاء القدر لها ولي أن تلفظ أنفاسها هذا الصّباح، ترى كيف ماتت بالضّبط؟ هذا لا يهمّني الآن، المهم أنّني حيّ في هذه اللّحظـة، وإن كانت تحيّرني تلك الابتسامة الباذخة التي تزهو بسمرتها، وتداعب شفتيها دون خوف من سلطة الموت! أين شحوب الموت؟ أين هلع الأنفاس الأخيرة المغادرة دون رجعة؟ أين النّظرات الزّائغة؟ لماذا هي مبتسمة في لحظة النّهاية؟ أتراها تسخر مني؟ أم تسخر من الموت؟ أم تسخر من السّخرية ذاتها؟!

يقولون إنّها زعيمة وطنيّة مرموقة في حزب الحياة الممنوع والمعارض، ويذكرون أنّها كاتبة مشهورة، كما يقولون عنها الكثير من الأشياء الأخرى التي ماعاد ذهني المشوّش بفوضى الألم يتذكّرها في هذه اللّحظة، أنا لا أعرف الكثير عن آرائها ومواقفها، لا شكّ في أنّ حروبي الطّويلة مع المعارضين والمنشقّين عبر المجرّة قد سرقتني حتى من معرفة هذه المرأة التي يقال إنّها مشهورة بلقب النّبيّة.

لقد بتُّ أحفظ تفاصيل بزّتي العسكريّة الواقيّة من الإشعاعات الكونيّة والإشعاعات الحربيّة المعادية أكثر ممّا أحفظ من تفاصيل وجهي وقسماته، أستطيع الزّعم كذلك إنّ مركبتي الفضائيّة المقاتلة أكثر قرباً إلى نفسي ومعرفتي وتواصلي من زوجتي الجميلة الزّلقة الملمس والرّائحة والطّعم والمزاج والإخلاص، وكذلك أكثر قرباً إليّ من أبنائي الاثنين المنذورين لدراسات أكاديميّة إلكترونيّة معقدّة في الجناح العسكريّ للحربيّة الوطنيّة في معسكرات الشمّال المتجمّد منذ وصلوا إلى سنّ الخامسة، بل إنّ مساعدي الأول الآليّ هو خير عندي وأكثر أهميّة وفائدة من مجمل أصدقائي الذين باتتْ تفصلني عن أماكن سكنى بعضهم بضع سنوات ضوئيّة.

ليتني أستطيع أن أرثي لها ولجسدها المسجّى، ليتني أستطيع أن أرفض أن أأُسر في جسدها المنكمش على آلامه وعلى سيرته المحمومة، ليتني أستطيع أن أتشبّث بجسدي الحبيب، ليتني أملك الجرأة لأقول للأطباء: دعوني أموت، أنا أرفض أن أكون حقل تجارب، وأرفض أن أكون أوّل إنسان تُجرى له عملية نقل دماغ، ليتني أستطيع أن أرفض بعزم وإصرار أن يُنقل دماغي إلى جسد تلك المرأة المعانقة للموت والعدم منذ الصّباح، ليغادر مكرهاً جسدي المهترئ حدّ التآكل، والمحترق حدّ التّفحّم جرّاء أشعة ذلك الفخّ الانتحاريّ الذي نصبه لي ثوّار المجرّة في دوريتي الصّباحيّة الاعتياديّة صباح هذا اليوم في مدار القمر، فهتّك جسدي، والتهم أعضائي، وما أبقى إلاّ على رأسي سالماً وعلى فتات من ذكرى لحمٍ وعظام مسحوقة كان اسمها جسدي.

لكنّني جبان ضعيف أمام رغبتي المتشبثة بالحياة، لا زال طعم الحياة الحلو ينخر إرادة الرّفض والاستعلاء على الضّعف في نفسي، ويلحّ عليّ بإصرار لعين لأتشبّث بالحياة ولو في جسدٍ آخر، ولو كان هذا الجسد مسروقاً من امرأة كان لقبها في الصّباح النّبيّة.

حدثت الأمور بسرعة قدريّة تشبه مؤامرة حقيرة تُحاك في الظّلام، هي لفظتْ أنفاسها الأخيرة هذا الصّباح في زنزانة قذرة، وأنا تعرّضتُ في الوقت نفسه لحادث انتحاريّ، هي باتت دون روح ودون دماغ، وأنا بتُّ عقلاً ينبض بالحياة دون جسد، وهنا في هذه المستشفى العسكريّ النّوويّ حيث لا يدخله إلاّ كبار الموظفين والعسكريين والعلماء الذّريّين والأثرياء كان طبيب جامح ومساعده الطّبيب الآليّ وعصبة كبيرة من الأطبّاء المشهورين والمخضرمين والمتدرّبين والباحثين في هندسة الجينات البشريّة وفيزياء الجسد وكادر من الممرضين والممرضات والمساندين والمساعدين الآليين في انتظاري باقتراحهم الإبليسيّ وتجربتهم المخيفة، لم يكن أمامي إلاّ القليل من الوقت لأوافق على هذه العمليّة بتهور وعلى عجل يتنازعه ألم جسديّ عظيم، وخوف رهيب من الموت والرّحيل، ورغبة ملتهبة في أخذ فرصة جديدة للحياة، ولو كانت فرصة أكبر من مستحيلة، وتكاد تكون الأولى من نوعها، أو هي كذلك.يا لها من فرصة مقيتة مسروقة من امرأة ميتة مسجّاة عارية إلى جانبي! فيما تفكّر هذه الصّامتة في هذه اللّّّّحظة؟ّّّّ لعلّها ترفض بصمت رهيب أن تهبني جسدها الصّغير، ولكن من يبالي برفضها؟! وأنا الجبّار القويّّ في هذه اللّحظة بسلطة حكومة درب التبّانة على الرّغم من ضعفي وعجزي، وهي الضّعيفة العاجزة السّادرة في العدم.

الكثير من مسكّنات الألم المتطّورة استطاعتْ بصعوبة وبطء أن تمدّني بلحظات من صمت ألم حروق جسدي وكسور عظامي كي أفهم العرض المقدّم لي من الأطبّاء على طبق من المستحيل والمجازفة، كلّ شيء جاهز؛الأبحاث الدّقيقة والنّتائج الإيجابيّة والمبشرّة والأكيدة بعد استخلاصها من عمليات مشابهة على الحيوانات والكوادر الطّبية والتّمريضية المدرّبة والأجهزة المتطوّرة والدّعم الآليّ المتقدّم وجسدها ودماغي وزمن حرج مخنوق مشدود بتوتّر إلى القلق والعجز والقصر والانقضاء السّريع،و فرصة واحدة تكاد تكون زائلة لا تتجاوز بضع ساعات تفصلني عن موت مؤكّد في ضوء معطيات جسدي المتآكل الذي يعمل قلبه ورئتاه بصعوبة معاندة لكلّ الآلات الصّناعيّة المنعشة والتّشغيليّة المربوط إليها.

علي أن أختار سريعاً، أو هذا ما يخيّل إليّ أنّني سأفعله، أو ما يجب أن أفعله فعلاً، ولكن الحقيقة تقول بصفاقة لا مبالية إنّ الأقدار قد اختارتْ مسبقاً، ورتبت الأمور والصّدف والأحوال كما ينبغي، وأنا مضطر إلى أن أرضخ إلى تصاريف الصّدف والأفعال العبثيّة والقدريّة في آن، مادام العلم كلّه والتّقدّم الحضاريّ بأسره في الألفيّة الثالثة من تاريخ البشريّة وسلطتي ورتبتي العسكريّة الرّفيعة ونفوذي الخطير وسيرتي العسكريّة المشرفة وطموحاتي العملاقة ومآثري المزعومة لا تستطيع جميعـاً أن تهبني لحظـة حيـاة إضافيّة إنْ انتهت إقامتي الجبريّة اللّذيذة في سيرورة الحياة.حتى جسدها الصّغير المقرور هو قدري في هذه اللّحظات فضلاً عن موتها أو للدّقة قتلها في يوم حاجتي إلى جسد ما.

أستطيع أن أزعم بنَفَسٍ استعلائيّ مقيت متعفّن أنّ إرادة جبارة في هذا الكون تريد أن تهبني فرصة جديدة للحياة، وهي بجبروت إرادتها السّلطوية النّافذة قد رتبت الظّروف كلّها حتى موت هذه المرأة السّمراء الصّغيرة من أجل إنقاذي، ولن يعيبني أن أدّعي في لحظة انتحار أمنيات واحتضار قسريّ مؤلم أنّ خلق هذه المرأة وسيرتها وأقدارها جميعها حتى موتها إنّما كانت كلّها بترتيب الإرادة الخفيّة الجبّارة من أجلي أنا دون غيري من مخلوقات هذا الكون،ومن سيمنعني من أن أهمس لنفسي بصمت، وأن أقول لها مخفّفاً عنها بلاءها ومجافياً إلحادي العتيد المعلن المنكر لوجود إله أو آخرة أو حساب أو جنة أو جحيم: إنّ هناك قوة في السّماء تحبّني بشدة على الرّغم من كفري وجحودي، لعلّها محاولة غير يائسة من تلك القوة، وقد تتكلّل بالنّجاح من أجل استمالتي نحو الإيمان والتّصديق بالرّبوبيّة وسائر فانتازياتها التي أقرأ عنها من وقت إلى آخر في كتابات بعض الباحثين عن الشّهرة السّريعة من الكتّاب والإعلاميين في المنظومة الإعلاميّة الإلكترونيّة الكونيّة.

باختصار ليس أمامي إلاّ أن أركع في محراب الفرصة الثّانيـة والأخيـرة للحياة، ولو كان ذلك على حساب المسلّمـات والطّبيعيّات والمعارف والعوالم والحقائق كلّها، بل وعلى حسابها هي،أيّاً كانت الأحوال، وأيّاً كان قراري، فهي في الأحوال كلّها لن تبالي بمصير جسدها المنكود، فقد ذاق العدم والنّهاية الحتميّة، وما كان كان، ولا أخال أنّها ستغضب من أن يبقى جسدها حيناً من الزّمان خالداً بعد رحيلها عن دنيا الوجود مسجوناً بي أو معي، أو ساجناً لي بمعنى آخر، بل قد يفرحها ذلك بمعنى ما، وإن كنتُ أشكّ في أنّها ستفرح بأن تترك جسدها عالقاً في عالم المادة مع رجلٍ أخال أنّه واحد من ألدّ أعدائها لاسيما وأنّه هو من فتك بالكثير من أصدقائها الثوّار الذين أرادوا للبشريّة أن تتراجع في ضوء مطالبتهم بمثاليّات سخيفة بالية عتيقة قد تجاوزتها الحضارة الإنسانيّة منذ قرون، وباتت تاريخاً منسيّاً مغضوباً عليه في ذاكرة جمعيّة كادت تجهضه تماماً من تاريخ حيّز تذكّرها.

ومن يدري ربما كان هذا الأمر سيسعدها، وسيتناسب مع نسق مثالياتها وأفكارها الرّومانسيّة المغرقة في إنسانيّتها المنفّرة ويتواطأ معها؛لتبرهن للمجرّة كلّها على أنّ ثورتها كانتْ صادقة وقابلة لتجاوز العثرات والأسئلة والمزالق والتّشكيكات والأزمات كلّها، وبذا تخلص إلى لقب النّبيّة بكلّ استحقاق وجدارة، فمن سيكون غيرها عندئذٍ حريّاً بهذا اللّقب ؟وهي من تهب عدواً من ألدّ أعدائها جسدها راضية مرضية، وإن كان في زمرة من ساهموا في ملاحقتهـا وسجنها وقتلها بمعنى من المعاني مادام هو ضمن جنود حكومة المجرّة، وواحد من أبرز رجالاتها وزعاماتها وقوّداها.

أيّاً كانت الاحتمالات والمشاهد والفرضيات والتّأويلات فقد انتصر بسهولة ويسر لرغبة الحياة، وقرّر المجازفة مادام لا يملك غيرها، وهناك الموت يتربّص به، وينتظره قيد ساعات ليغرز نابه الأزرق المسموم في روحه المعذّبة الآثمة وفي بقايا جسده المهصور، وها قد أعطى موافقته على إجراء العمليّة عبر توقيع إلكترونيّ معتمد له في منظومة الدّولة العسكريّة والقضائيّة مشفوعاً بأرقامه السّريّة الخاصة.

وهاهو ينتظر بقلقه المسيطر وعقله النّابض بحمى الألم وأشلاء جسده، وعجزه البائن الكسير اكتمال الاستعدادات، وحضور الطّاقم الطّبي المشغول بصخب هذه العمليّة الاستثنائيّة التي اجتذبت آلاف الفضوليين، واستقطبت مندوبي وسائل الإعلام من شتّى أنحاء المجرّة، وباتتْ تبثّ الأخبار على التّوالي عبر فضائياتها المرئيّة والمسموعة والسّابقة لسرعة الضّوء كي ترسل الخبر إلى شتى أنحاء الكون عبر رسائل باللّغات كلّها لكلّ سكان الكون المعروفين والمجهولين القريبين والموغلين في البعد حيث لا أمل في التّواصل معهم بأيّ شكل من الأشكال إلاّ بالتقاط البثّ العشوائيّ الموجّه إليهم.

وهو ليس له إلاّ الصّمت والانتظار والأمل والرجاء والتفرّس في جسدها الشّاب العاجز المسجّى في الطّاولة الموازية لسريره بعجز محزن، لا يختلف كثيراً عن عجزه وضعفه، وكسر شوكة نفسه وعنفوان جسده وعزم إرادته الذي كاد يسحق نبض كبريائه وصهيل جموحه، ليتضاءل ويتقزّم في احتراق نيزك ضائع في مجرّة متوحّشة عملاقة أو موت كوكب تليد في لحظة إشعاعه الأولى.

يبتسم على مضضٍ لسبب يجهله، ولكنّه يمنّي نفسه بتحقّق المعجزة، لم يسبق لبشر أن نجح في أن يعيش بدماغ غيره، ولكنّه على ما يبدو على حلفٍ مع الأحداث الغريبة والنّكسات الاستثنائيّة، وهاهو مضطر الآن إلى أن يخضع لعملية غريبة لا تقلّ وحشيّة عن بتر عضو بسكين ثلماء كي يغدو له جسداً جديداً مسروقاً من امرأة عاجزة لا يعرفها، ولا تعرفه.

القدر يسخر منه بحق، فيسرق منه جسده الرّجوليّ الوافر الجمال والعنفوان والاكتمال والبسطة في الطّول والصّحة والعطاء والحضور والجاذبيّة، ويهبه جسداً أنثوياً أسمرَ، يغالب ندوباً وجراحاً وألوان طيف الشّمس ورفيف الموت المداهم له عنوة وقسراً.

الأطبّاء أكّدوا له أنّ هذا الجسد الأنثويّ المنسرح في أحضان الموت بابتسامة قرمزيّة مترعة بالسّلام والرّضا وبشيء آخر لا يعرف له اسماً أو لوناً أو صفة هو الجسد الوحيد الملائم جينيّاً وأنسجة وخلاياً لجسده، في حين تغيب الاحتمالات الأخرى الملائمة له، حتى تلك الجثّث الكثيرة المكوّمة في المشرحة حصيلة حادث مروريّ على الخطّ الضّوئيّ السّريع بين الأرض والقمر ووفيات طبيعيّة، ومواجهات دامية مع الثوّار في الشّمال، وانفجار في معمل كيميائيّ نوويّ جميعها لا تناسبه جينياً، ولذلك عليه أن يقبل بأن يدسّ روحه ودماغه في هذا الجسد الصّغير على كُرْه أو رضا حتى ينجو بحياته، وعندها سيكون من السّهل على الأطبّاء نقل دماغه من جديد إلى جسدٍ ذكوريّ، يُنتقى على هوادة وتروٍ وفق شروطه ورغباته بمساعدة مخابرات المجرّة لتعويضه عن خسارته الرّهيبة لجسده في حربه المخلصة للدّولة في مواجهة الأعداء والثوّار والمخرّبين.

هو في هذه اللّحظة لا يثق بمخابرات المجرّة ولا بالأطبّاء ولا بهذه العمليّة المستحيلة ولا حتى بجسدها المسجّى بصمت واستسلام، لكنّه يثق بعجز واضطرار بطاقة كونيّة عجيبة قادرة على أن تخلّصه من هذه المحنة الخرافيّة، ويفكّر في أن يتمتم بنشيد ما ليساعده على أن يعلو على رهبة الموقف وصقيع الوحدة والخوف، ولكنّ فكّه المكسور يحرمه من هذه المصالحة الصّغيرة مع لحظته، ويسلمه وحيداً محزوناً لجسدها، ولاشيء غير جسدها.

يحاول أن يهرب منها باستذكار عقيم لمفردات هذه العمليّة، ومراحلها ومجازفاتها وتوقعاتها وإمكانياتها التي حدثّه الأطبّاء عنها بإسهاب مُساط بقلق الزّمن، يدرك أنّه نسي معظم ما قيل له، خلا أنّ جسده البالي سيُلقى به في مشرحة كليّة الطبّ، ودماغه سيرتدي جسدها، وهي ستكونه، وهو سيكونها، وبذلك يكون رجلاً في جسد امرأة، أو جسد امرأة بعقل رجل، أيّ سيكون اثنين في واحد إلى أن تنجح العمليّة، ثم يعيد الأطبّاء الكرّة، ويهبونه جسداً ذكوريّاً يسكنه حتى يأتيه الموت مرة أخرى مطالباً بإصرار بانضمامه إلى قافلة الرّحيل والعدم، وحتى ذلك الوقت عليه أن يؤمن بالمستحيل وبجسدها، وببركات روحها النّبيّة، لعلّها تهبه النّجاة من هذا الكفر الموصول.

في غضون دقيقة يأتون جميعاً، لا يعرف لهم أسماء، كلّهم هنا من أجل ميلاد هذا الإنجاز الطّبي المستحيل، به قد تكون ولادة حقبة جديدة من تاريخ البشريّة والتّقدّم الحضاريّ والإنجاز الطّبيّ، هو وحده من سيملك أن يقول نعم أو لا لتكرار هذه التّجربة له ولغيره من البشر،هو وحده من سيجيب على هذا السّؤال البشريّ المعلّق، ووحده من سيكون معلّقاً في العجز والوحدة والحرمان والغربة داخل ذاتـه في هذه التّجربة العجيبة التي تفوقه، ووحده من سيُسجن داخل جسدها المفصّل على قدر صفاته الجينيّة وعجزه وحرمانه وغرابة الصّدفة التي يكره أن يؤمن بها، وأن يستسلم لها.

آنت اللّحظة القدريّة الفجيعة، لا مفرّ من أن يستسلم لهم ولمباضعهم المتأهبّة للانقضاض عليهما، يغزوه غاز مخدّر عبر قناع الأوكسجين الذي يحاصر فمه وأنفه، يحاول أن يبحث عن ابتسامة تشجيع من الوجوه التي تغزو مساحة رؤيته، وحين يخفق في أن يحصل عليها برغبة مستجدية ملسوعة، يهرب دون وعي إلى جسدها، يسترق النّظرات إليها عبر ثقوب المساحات بين الأجساد التي تحاصره، يكاد يلمح ابتسامة تخصّه تختال على شفتيها، يغزوه اطمئنان صغير دافئ، وينسرح في عالم الهلوسات والأحلام والغياب والخدر، وتغيب الأشياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– رواية (أعشقني) للدكتورة سناء شعلان. صدرت الرواية سنة 2016.
الرواية نت – خاصّ

“حارس السفينة”لليمني عبدالله ناجي

$
0
0

يقدم الشاعر والروائي اليمني عبدالله ناجي على مغامرة روائية جديدة بعد روايته الأولى “منبوذ الجبل”، في عمل روائي يحمل عنوانا لافتا وهو حارس السفينة والصادر عن دار مسكيلياني بتونس.

وقد جاء في كلمة الغلاف:
هذا العمل لا يُجابه الواقع ولا يهرب منه، لا يثور على أفكاره المتوارثة ولا يتعامل معها. إنّه يفضّل أن يهزأ به ويستفزّه. سفينةٌ نصفها غارق في البحر تشكّل عمود الرّواية ، إذا برزت للرّائي ألهمَتْهُ وإذا حُجبت عنه تخيّلها بكلّ تفاصيلها. هي روايةٌ تأخذنا في مراوحةٍ أنيقةٍ بين الواقع الفعليّ وبين الخيال الجامح فترجحُ كفّة الأوّل مرّةً والثّاني أخرى إلى أن يتمازج الاثنان فلا نستطيع فَصْلَ أحدهما عن الآخر. كما تحتفي بالمجازات والرّموز، فلا تكاد تعلقُ بصورةٍ أو رؤيا حتّى تستأثر بك غيرها.

إذا كانت الوِحدة والظّلام مُضجريْن عادةً، فإنّهما يتحوّلان في هذا العمل إلى سبيلٍ نحو الحريّة والانعتاق من كلّ شيء بما في ذلك ضجيج التّفكير وزحام الأضواء. هي محاولة إذن للعودة إلى الطّبيعة الأولى قبل أن تلغي الحضارة الكائن الإنساني وتخلّصه من بساطته. وهي فرصةٌ لنمثّل ذاتنا الحقيقيّة لا ذاك الشّكل الذي يعدُّ تعبيرًا عنها، فرصةٌ لنحرس من بعيدٍ آمالَنا العائمة أمامنا ونفُكَّها من أَسْرِ طموحاتنا المحدودة.

الرواية نت

اللايقين عمل سرديّ للعماني محمّد الفزّاري

$
0
0

صدر حديثاً للكاتب والصحافي العُماني محمد الفزاري “اللايقين” وهو عمل سردي حكائي.

عنون الفزاري عمله ب “اللايقين” وجاء العمل في 304 صفحة من القطع المتوسط.

في 28 من الشهر المنصرم ذكر الفزاري في صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “كما وصلني اليوم، تم منع كتابي (اللايقين) من قبل وزارة الإعلام العمانية”.

و”اللايقين” هو عمل سردي يرصد التحولات الفكرية ومحطات تشكل الوعي لدى ذاتين التقيا بالصدفة سابقاً.

 

تتشارك الذاتان في نفس المنعطفات الرئيسة في البحث عن الذات والتحرر من المألوف اجتماعيا وسياسيا ودينيا؛ لكنهما في الأخير تصطدمان بقدر أقوى من إرادتهما.

في كل هذا العبث الوجودي الذي يؤكده العمل في أكثر من موضع، يسخر الكاتب من حالة اليقين بمختلف حالاتها بصراحة قد يراها البعض تجاوزا وتعديا على مقدساتهم؛ حيث يرصد العمل جدلية علاقة الإنسان بالسلطة الاجتماعية، وجدلية علاقة المواطن بالسلطة السياسية، وجدلية علاقة المسلم بالسلطة الدينية، ويذهب أبعد من ذلك عندما يرصد جدلية علاقة المثقف بالسلطة السياسية.

جدير بالذكر أن محمّد الفزّاري روائي وصحافي عُماني مقيم في لندن كلاجئ سياسي منذ 2015 بسبب نشاطه الحقوقي والسياسي في عمان، يرأس تحرير شبكة مواطن الإعلامية، وهو ينشر عمله السردي الثاني عن دار عرب للنشر والترجمة.


محاسن عرفة تقتفي آثار نساء يجمعن ندى الفجر

$
0
0

في عملها الروائي الأول ” نساء يجمعن ندى الفجر”، الصادر عن (وكالة الصحافة العربية ناشرون) تتناول الكاتبة محاسن عرفة حكايات لمجموعة من النساء في مدينة بيروت، بعد انتهاء سنوات الحرب الأهلية.

منى، يارا،ريم، مي، فؤاد عزت، سهيل الضاوي، هم أبطال رواية ” نساء يجمعن ندى الفجر”، أما مكان لقائهم جميعا فهو استراحة صغيرة على شكل بستان  صغير ألف بينهم في عقد صداقة امتدت لأعوام قبل أن تتبدل مصائرهم.

تتوقف محاسن عرفة في روايتها أمام التحولات النفسية والإجتماعية السريعة التي تحصل في حياة البشر، تتسلل بخفة إلى داخل النفوس لتكتب عنها بتجرد، وتحرر من أي تقييم أخلاقي لاختيارات الأبطال ومواقفهم الإنسانية.

ورغم أن الزمن الروائي يبتعد عن الحروب بشكل مباشر إلا أن القارئ يتمكن من اقتفاء أثر الماضي عبر الأحداث المتداخلة بين الماضي والحاضر، وعبر حضور مواقف  تساهم في تشكيل مصائر الأبطال وتحولها، كما حدث مع محسن الشاب الحزبي الذي انتهت حياته في أوج شبابه، وترك رحيله مرارا لا ينتهي في حياة أسرته، نرى أثر الحرب أيضا في العلاقة بين مي بدران ووسام الشاب الحزبي المراوغ، والذي يمثل الوجه المناقض لشخصية محسن. أما شخصية ريم حمدان فتعكس التحولات السريعة في عالم الصحافة والإعلام. وتظل شخصية يارا وسهيل الضاوي من أكثر الشخصيات المؤثرة في هذا العمل الروائي، حيث كلاهما يقدم الجانب المضيئ في النفس الإنسانية، حين يكون اختيار العطاء من دون مقابل اختيارا نابعا عن وعي كبير بأهمية المحبة في انقاذ العالم.

اختارت الكاتبة لروايتها تعدد الأصوات الروائية في السرد وتنوعها بين صوت المرأة وصوت الرجل، حيث يروي كل بطل حكايته من وجهة نظره، في مقابل الاضاءة على تلك الحكايات من وجهات نظر أخرى بحيث يبرز التناقض حسب مكان الرؤية، ومواقف الأبطال.

 

من أجواء الرواية :

 

ماذا نفعل هناك؟

كنا نحكي قصتنا، لكن قصتنا لم تكتمل. تفرقنا جميعاً، مضى  كل منا في سبيله بحثاً عن نهاية تليق بأوهامه بأمنياته، ببحثه المحموم عن الغد.

الآن وأنا أجمع آخر الأشياء من هذه الاستراحة الأليفة التي جمعتنا لزمن، أدرك أن الجدران خزنت قصصنا كلها بين مساماتها، في زاوية  الركن القصي لطالما انتظرت يارا أيمن، أين هي يارا الآن يا ترى؟ وأين هو أيمن، ربما مسافر في مكان ما؟ كلاهما غاب في عتمة السنين.

هنا على طاولتي المفضلة في منتصف المكان اعتادت مي الجلوس معي، نتحدث طويلاً وأنا أراقب بعيني كل الطاولات، الغرباء والأصدقاء. وفي الجانب الأيسر حيث البيانو العتيق، لطالما انتظرت ريم قدوم فؤاد عزت.

لا أعرف كم من السنوات مرت على هذه التفاصيل،كل ما على فعله الآن، جمع اللوحات عن الجدران، لملمة ما تبقى من أشياء لأتخلص منها قبل السفر.

لم يعد هناك مكان اسمه “استراحة الزمن الجميل”، كل شيء قابل للتغير، للتحول، البشر، الأشياء، الأماكن. هذا هو الأمر الثابت والوحيد في الحياة ” التغيير”.

تعلق عيناي عند اللوحة التي ضمنت بيتين من الشعر لأبي العتاهية، أقرأهما وأجهش بالبكاء:

ولعل ما تخشاه ليس بكائن

ولعل ما ترجوه سوف يكون

لعل ما هونت  ليس بهين

لعل ما شددت سوف يهون

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

خاص : الرواية نت

العلاقة بين الناشر والكاتب.. حكايات ومفارقات

$
0
0

هذا “بوست” طويل جداً، أجّلته وقررت عدم كتابته أكثر من مرة، لكني مؤخراً قرأت “بوست” لصديقة كاتبة تشتكي من ناشرها الذي يطلب منها المساعدة في الترويج لكتابها، و”بوست” آخر لصاحب مكتبة يشتكي من دور النشر وطلباتها، وتعليقات على هذا “البوست” بعضها من كتّاب وقرّاء… وهي تعليقات مخيفة في تجاهلها لتعب الناشر وجهده وضياع ماله.
.
تحذير ضروري:
عزيزي، لا تبدأ بهذا البوست الطويل لأنك ربما ستتعب وتمل، وتسأل نفسك: “وانا مالي؟”، وأودّ أن أخبرك منذ الآن، عزيزي، أنه “بوست” فشّ خلق مش أكتر. فإما اقرأه وخود فكرة عن مكتباتنا، أو تجاهله وانساه كأنه لم يكن.
.
عنوان رئيس لا لزوم له: “في التوزيع”
عنوان فرعي (أيضاً لا لزوم له): “من تجربة متواضعة جداً”
.
مقدمة غير مهمة (يمكن القفز فوقها ولن يفوتك شيء):
بات من المكرر أن أقول إني أعمل في مجال الكتاب منذ أكثر من 11 سنة (علمت فيها في أكثر من دار نشر وبأكثر من وظيفة، وكان لدي اطلاع على تجارب دور نشر أخرى غير تلك التي عملت فيها نتيجة علاقتي بأصحابها أو مدرائها أو العاملين فيها). ومن خلال سنوات العمل هذه، ومنذ لحظة مبكرة، وعيت إلى أني شخص لا يمكن له أن يعمل في توزيع الكتب، ولا في بيعها، ولا في أي منصب فيه احتكاك مباشر مع المكتبات والموزعين وبائعي الكتب على اختلاف أشكالهم.
وعلى الرغم من النأي بنفسي عن كل ما له علاقة بالمبيعات، إلا أنني وخلال هذه السنوات اضطررت في مرات كثيرة للمساعدة في مهمة التوزيع والبيع. ومن هنا تأتي هذه الملاحظات والمرويات والخبريات.
.
1- المروية الأولى (يتبعها: نتيجة رقم 1):
حكاية طريفة في مشهدين، أبطالها: ناشر – مكتبيّ – كاتب
المشهد الأول:
معرض الكتاب في أحد الدول العربية (ولنفترض أنه معرض الشارقة مثلاً، أو معرض بيروت وقد زاره موزع من الخليج، لتسهيل ما سيلي)
الناشر في جناحه سعيد، يشرب كوب قهوته بمزاج، يدخل عليه فجأة صاحب مكتبة شهيرة ولها فروع عدة.
– صباح الخير يا عزيزنا.
– صباح الخيرات… يا مية أهلا وسهلا.
– عناوينكم حلوة، وحابين نتعاون معاكم. كم نسبة الخصم؟
– 40%.
– لا لا ما يجوز. نحنا ناخذ 60% من باقي الناشرين.
– والله ما بيمشي الحال أبداً، نحنا أسعار كتبنا مدروسة بعناية، والناشر اللي عم يعطيك 60% إما مو شاري حقوق اذا الكتاب مترجم، أو ما بيدفع للكاتب إذا الكتاب مؤلّف. ممكن أعطيك حسم 50% وصدقني ما بعطي أكتر من هيك لأي موزع.
– لا لا ما ينفع. 55% وخلني اختار.
– صدقني ما فيني. لا تنسى اني دافع شحن الكتب من (البلد الفلاني) إلى بيروت [تذكر عزيزي القارئ أن بيروت هنا افتراض، ويمكنك ألا تتذكر ويبقى الحال نفسه]
– ما يخالف مع اني ما اقبل بال50% من أحد لكن حامشيها المرة دي والمرة الجاية نعدل الاتفاق.
يبدأ المكتبي باختيار العناوين التي يظن أنها ستبيع (وهي طبعاً الكتب المشهورة والكتب المترجمة). وهنا يتدخل الناشر ليلفت نظره إلى الكتب العربية المهمة جداً والجميلة جداً.
– لا لا هذي ما تتحرك.
– بس عندي بتبيع منيح بالمعارض.
– لا لا الصدج انها ما تتحرك. وخلي بالك الدفع مو كاش… الدفع بعد ست شهور، ولو في كتب ما اتحركت اردلك ياها.
– بس…….
– قبل ما اختار… أكمل لو لا؟
– كمّل……..
*
المشهد الثاني:
الناشر في مكتبه بعد مضي شهرين على المعرض السابق، يرسل له الكاتب إيميلاً، أو رسالة فيسبوكية، أو يتصل به هاتفياً.
– عزيزي… كتابي وين موجود بالدولة الفلانية من دول الخليج؟ بأي مكتبات؟
– والله كتابك مو موجود بالدولة الفلانية من دول الخليج.
– ليش؟؟؟؟؟ (وربما يلحق بشلة الاستفهامات هذه وجهاً أصفر ممتعضاً أو تهلّ منه دمعتين، أو شلال دموع، لا فرق… وإذا كان محنّكاً أكثر قد يستبدل هذه الخيارات بوجه أصفر فيه ابتسامة خبيثة 😏).
– والله بعض كتبنا موجودة بهالدولة بس مو كلها، هاد بيرجع لاختيارات أصحاب المكتبات هنيك. وصدقني حاولت قدّم تسهيلات كتيرة لياخد باقي الكتب بس ما قبل.
تنتهي المكالمة هنا، ولكن صديقنا الكاتب لا يترك كبيراً أو صغيراً دون أن يخبره بأن الناشر “مو شاطر” بالتسويق، وكتبه غير موجودة في المكتبات.
.
نتيجة رقم 1:
الموزع أو المكتبجي في العالم العربي -على الغالب- (كي لا يتهمنا أحد بالتعميم، فينسى وننسى معه هدف هذه النتيجة وماذا تريد القول، وننشغل بالتبرير والاعتذار): هو شخص غير مثقف، ولا يهمه من المؤلف أو الناشر سوى كم سيربح من الكتاب. أي باختصار هو: تاجر. والناشر والكاتب، كلاهما يخضعان لمزاجه ورؤيته (إذا كان يمكن أن نسميها رؤية بدلاً من عدم رؤية أو حتى عمى).
يعني عزيزي الكاتب، لست أنا من لم أقدر على توصيل كتابك للبلد الفلاني، وإنما أصحاب المكتبات في البلد الفلاني هم من لم يقبلوا أخذه لأنهم اعتقدوا (وربما اعتقادهم خاطئ) أنه لا يبيع.
.
2- المروية الثانية (يتبعها: نتيجة رقم 2):
قصة قصيرة يمكن لها أن تحدث في أي مكان ينتمي إلى الوطن العربي، وفي أي زمان بعد عام 2008.
.
يذهب السيد فايز علام، وهو ناشرٌ جديد وما زال لديه الكثير من الأحلام الوردية والطموحات البنفسجية والأمنيات الخضراء إلى دوامه في معرض بيروت للكتاب لعام 2018.
يلقي بنظرة حانية على إصداراته الأحد عشر، ويزهو بنفسه أنه اختارها بكل عناية وأولاها كل اهتمام. ولا يكاد يقول: صباح الخير والفل والياسمين لجيرانه الناشرين ممن تصادف وجود أجنحتهم بقرب جناحه في معرض الكتاب، حتى يدخل عليه باسماً مستبشراً مسؤول إحدى المكتبات التي لديها فروع في خمسة بلدان (وعقبى للسادس، واللهم زد وبارك).
وبعد التحية والسؤال عن الأحوال، يختار المسؤول بعض العناوين ليزوّد بها فروع المكتبة الخمسة، ويختار من بين عناوين الكتب العربية الأحد عشر واحداً فقط.
وعلى الرغم من أن السيد فايز علام (بطل قصتنا هذه) يعرف مسبقاً أن رؤية مسؤولي المكتبات تختلف عن رؤيته، وقد تعلّم من موقف سابق ألا يناقش، إلا أن الفضول يذبحه لطرح سؤال. ولأن السيد علام -مهما حاول- ضعيفٌ أمام فضوله، فإنه يبادر بطرح السؤال.
– عفواً، أنت من بين ال11 كتاب اللي عالطاولة هون، اخترت هالرواية بس. بتعرف المؤلف؟
– لا أبداً. بس غلافه حلو.
– بس في 6 كتب أغلفتها من تصميم نفس المصممة.
– لكن ما لفتوا نظري.
وهنا، وللمرة الثانية على التوالي في هذه القصة يرتكب السيد علام خطأ، فيتحمس لإقناع المسؤول ببقية الكتب. فيشرح له عن المؤلف (س) وعن المؤلفة (ع)، وعن الكتاب الذي وصل إلى جائزة….
عند كلمة “جائزة” يقاطع المسؤول السيد فايز، ويخبره بنبرة واثقة:
– في الجوائز قلي عن البوكر وبس، لأن بصراحة باقي الجوائز ما بتبيع.
وأمام جواب حاسم وجازم وصادم كهذا، يقرر السيد علام أن يحضّر الطلبية للمسؤول دون أن يتفوه بأي كلمة إضافية.
وعندها تنفرج أسارير المسؤول ويغادر الجناح وهو يلوّح سعيداً، آمراً بصيغة سؤال: “أمر عليك بكرا بلاقي الطلبية جاهزة؟”.
.
نتيجة رقم 2:
إننا، إذ نؤكد على صواب ما ورد في النتيجة رقم 1 مجدداً، ومن خلال مثالٍ آخر هو ما ورد في المروية الثانية، فإننا، ومن هذه المروية تحديداً، يمكن لنا أن نخرج بنتيجة جديدة أيضاً. وهي نصيحة على شكل نتيجة أو نتيجة على شكل نصيحة.
عزيزي الناشر، إذا نشرت كتاباً عربياً وكنت لا تتوقع أن يفوز بالبوكر أو يصل إلى قائمتها القصيرة، أو حتى الطويلة (وهذا أضعف الإيمان) فحذارِ من نشره، لأن المكتبات ستهمله ولن تأخذه.
وإذا كنت عنيداً، ولديك أحلام وردية وطموحات بنفسجية وأمنيات خضراء، وتريد نشر كتب جميلة أنت مؤمن بها، ولا يهمّك إن وصلت للبوكر أم لا، فإياك أن تناقش مسؤول مكتبة وتحاول إقناعه بأخذ كتاب (سيرده لك إن لم يبع، ولن يدفع لك ثمنه إن بيع إلا بعد ثلاثة أشهر إذا افترضنا حسن النية والصدق)، فذلك -أي مناقشته- كفيلٌ بأن يخرب مزاجك الصباحي وينزعه حتى نهاية اليوم.
.
3- المروية الثالثة (يتبعها: نتيجة رقم 3):
حوار يجري بين ناشر وصاحب (أو عامل في) مكتبة.
لقطة افتتاحية لفهم الحوار بشكل أفضل: الناشر يبحث بجدّ عن شيء ما، فوق الرفوف، في المكتبة. ويبدو أنه لا يعثر عليه. بعد نحو 8 دقائق من البحث يخرج من الرف السفلي الأخير بضعة كتب.
الناشر: عيني، ممكن سؤال؟
صاحب المكتبة: يا هلا بالأستاذ. كيفك؟ وكيف الشغل؟
الناشر: منيح.. منيح.. خيو سؤال، طلبت حسم 50% على كتبي وعطيتك. صح هالكلام؟
صاحب المكتبة: صح.
الناشر: وقلتلي بدك ترجّع اللي ما بينباع بعد 3 شهور وقلتلك مافي مشكلة. صح هالكلام؟
صاحب المكتبة: صح.
الناشر: وقلتلي ما فيك تدفع لتشوف شو رح تبيع وبتحاسب بس عالمباع. وقلتلك تكرم عينك. صح هالكلام؟
صاحب المكتبة: والله يا أستاذ أنت مافي منك. صح.
الناشر: ولنشوف شو الكتب اللي رح يتحركوا طلبت منك تعرض كتبي منيح منشان يشوفوهن الناس. وعلى هالاساس بتقرر شو بدك تخلي عندك لأنو انباع وشو لاء منشان ترجعه. صح هالكلام؟
صاحب المكتبة: والله يا أستاذ حطيتن عالواجهة وما تحركوا.
الناشر: ايمتى حطيتن عالواجهة وايمتى لحقوا يصيروا بآخر رف اذا الكتاب طلّع من المطبعة من أسبوعين بس؟؟؟!!
صاحب المكتبة: والله يا أستاذ شوفة عينك المكتبة صغيرة وماعم تساع كل الكتب.
الناشر: بس ليكك حاطط كتاب “فلانة” عالواجهة مع أنو صرلو سنتين، وحاطط كتاب “فلان” مع أنو صرلو 10 سنين. علماً أنو هالعناوين مو بحاجة تنحط عالواجهة لأن الناس لوحدها رح تسألك عنها حتى لو كنت حاططها تحت سابع أرض.
صاحب المكتبة: شو يا أستاذ. بدك كمان تتدخل بترتيب المكتبة؟؟!
الناشر: لا والله ما بدي اتدخل. بس انا اتفقت معك اتفاق انو بعطيك حسم عالي وبعطيك الكتب على الحساب بدون ما تدفع فوراً مقابل انك تعرضهن. فليش ما التزمت بالاتفاق؟
صاحب المكتبة: أي والله يا أستاذ كل هالكتب اللي شايفها بهالمكتبة عم يعطوني عليها 60 و70 كمان.
الناشر: إي طبعاً بيعطوك 60 و70 لأنو الكتاب اللي لازم يكون سعره 7 $ بيسعروه 10 $، أو بيكون الناشر أخد من المؤلف ثمن طباعة كتابه يعني مو فارقة معه اذا بيبيعه بحسم 90%.
صاحب المكتبة: أستاذ شو أنا بدي حاسب الناس كيف عم يشتغلو؟ وشو عم يعملو؟ كل واحد حر يشوف مصلحته وانا عم شوف مصلحتي.
الناشر: أي شوف مصلحتك وانا مصلحتي انو ما حط كتبي عندك منشان تزتها بآخر رف.
صاحب المكتبة: متل ما بدك أستاذ.
الناشر: وممكن حاجة تقلي أستاذ!!!! اسمي فايز وبس.
.
نتيجة رقم 3:
نصائح إلى ناشر شاب:
هناك طريقين لا ثالث لهما أمامك، ولكل طريق نصائحه، اختر الآن طريقك ثم اقرأ النصائح تحته.
الطريق الأول:
أنت ناشر محترم، لا ترضى أن تنشر أعمالاً رديئة على حساب المؤلف، ولا ترضى أن تنشر أعمالاً بعضها رديء على حساب المؤلف لتموّل بها أعمالاً جيدة على حسابك (وهو في الحقيقة ليس حسابك بل حساب المؤلف الرديء) ]انظر الحاشية * أدناه[، ولا ترضى أن تضع ثمناً لكتاب يفوق ثمنه العادل والمنطقي بـ 2$ أو 3$ (وذلك يا عيني قال إيه: حرصاً على أنك توفر الكتاب للقارئ بسعر معقول).
لا نصائح كثيرة أقدمها لك عزيزي الناشر إلا واحدة:
لا تجعل تجّار الكتاب يقودونك إلى شوارع “التعصيب” وأزقة الغضب وحواري الاستياء. تصرف كما لو أنك لا تراهم. هل وضعوا كتابك في آخر رف، ووضعوا كتباً تافهة في الصفوف الأمامية وعلى الواجهات؟ قل: طز، وتابع طريقك، فهذا عصر التسطيح والاستهلاك، وعليك أن تقتنع بذلك بدلاً من أن تدخل في مجادلات عقيمة، ستطلع منها خسراناً.
.
الطريق الثاني:
أنت ناشر (مش فارقة معاك)، وقد وضعت منذ البداية نصب عينيك أنك تريد أن تكون “ابن سوق” و”شاطر” والكل ينشر عندك ويقولوا: “أجدع ناشر” و”أشطر واحد” و”أحسن واحد” والخ الخ الخ من صيغ التفضيل، اتبع يا عزيزي ما يلي بدقة:
1- دع المؤلف يدفع (يمكنك فعل ذلك بأسلوبين، الأسلوب المباشر: يجب أن تدفع عزيزي تكلفة طباعة كتابك، الأسلوب غير المباشر: أرسل له عقداً لطيفاً ظريفاً وضع فيه بنداً ينص على أنه يجب أن يشتري 300 نسخة من كتابه، وانتبه هنا إلى أن المبلغ الذي يجب أن تضعه لثمن ال300 نسخة يجب أن يكون أعلى من ثمن الـ300 نسخة بدون حسم، فإذا كان ثمنها بدون حسم 2400$ ضع 4000$ وهكذا…).
2- ضع لكتابك سعراً تحسب فيه أنك ستعطي الموزع حسماً يصل إلى 70%، فإذا كان كتابك يستحق سعر 7$ (بعد حسم 50% سيكون 3.5$) هذا هو الرقم الذي يجب أن تعمل على أساسه (المعادلة بسيطة: اضرب هذا الرقم (3.5) بـ100 ثم قسّم على 30)، الناتج هو سعر الكتاب، هذا إذا كنت ستحاسب المؤلف بنسبته، أما إذا كنت لن تحاسبه فلا بأس من حذف 10% من الناتج، أو: احرص على ألا تعطي الموزع حسماً أكثر من 60% وإلا ستكون في عداد الخاسرين.
3- انشر كتب بيست سيلر
4- انشر كتب بيست سيلر
5- انشر كتب بيست سيلر فإن بها منفعة عظيمة:
أ‌- ستجعل المكتبات والموزعين يؤمنون أنك ناشر عظيم
ب‌- ستعوّض خسارة تكديس الكتب التي ليست بيست سيلر في مستودعاتك
ت‌- ستجعل المكتبات والموزعين يلهثون وراءك ولن تضطر لا لإقناعهم بأهمية كتبك، ولا لترجيهم ليضعوا كتبك في أماكن بارزة ولا لإرضائهم كي يتعاونوا معك… سيفعلون كل ذلك وحدهم ودون أي مجهود منك. صدقني!
ملاحظة تتعلق بما ورد في 3-4-5: عزيزي الناشر إذا قرأت كلمة “البيست سيلر” ثلاث مرات فلا تظننّ أن “البيست سيلر” هو فقط الكتاب المترجم الذي باع كثيراً في مكان نشره. إن مفهوم “البيست سيلر” يمتد ليغطي ما يلي:
1- كل كتابٍ تافه لا يحوي أي قيمة، بقليل من الدعاية ستجد أنك صنعت بنفسك “البيست سيلر” الخاص بك
2- كل كتاب كتبته كاتبة تنشر كل يوم صورها الجديدة (مرة بابتسامة، ومرة مع كوب قهوة، ومرة مع كتاب، ومرة مع اقتباس من كتابها… الخ) ]انظر الحاشية ** أدناه[.
3- كل كتاب كتبه كاتب لديه علاقات أخطبوطية
ملاحظة: لا تنس أن الشرطين 2 و3 لا ينفعان إلا إذا كان الكتاب تافهاً. فلا تنشر كتاباً لكاتبة تضع صورها لكنها عميقة، هذا لن يفيد. كما لن يفيد أن تنشر كتاباً لكاتب علاقاته أخطبوطية لكنه غير سطحي.
إذاً، القاعدة الذهبية: السطحية شرط لازمٌ ولكنه –في بعض الأحيان- قد يكون غير كافٍ.
.
الحواشي:
* بعض الدور تحتال على قضية أنها تنشر على حساب المؤلف، فما الذي تفعله؟
تنشر كتاباً على حساب المؤلف بالمبلغ المرقوم (رقم كبير، وغالباً من كاتب مغترب أو خليجي)، ثم تنشر بما قنصته من هذا المؤلف عشرة كتب من دون أن تأخذ من المؤلف، فيكون الصيت الذائع أن هذه الدار لا تنشر على حساب المؤلف.
** لفهم أعمق لهذه النقطة اقرأ هذه المروية الصغيرة، وهو مشهد يجري في مقر دار، أو في جناح معرض، وأبطاله: ناشر – صاحب مكتبة، وكاتبة لا تظهر في المشهد، لكن تطغى “سكساويتها” على الحديث كله.
.
مشهد افتتاحي: صاحب المكتبة يختار بعض العناوين، وكما هي الحالة دائماً فإنه يختار العناوين المترجمة فقط، ولكن الناشر رأى صاحب المكتبة نفسه في دار أخرى وقد اشترى رواية عربية، أو ربما يرى هذه الرواية في “كيس” يحمله صاحب المكتبة، ولأن بطل مروياتنا جميعاً ناشر فضولي فإنه لا يكف عن الأسئلة.
– عفواً، بس أنت عم تختار كتب مترجمة فقط، رغم إنك اخترت من الدار الفلانية هذه الرواية العربية. شو السبب؟
– إي هيّ الكاتبة بعرفها كتير.
– كيف؟ يعني قريتلها من قبل وحبيت كتابتها؟
– لا، بس كتير بتنزل صور على الفيسبوك مع مقاطع من كتابها.
– يعني أنت عجبوك صورها أو المقاطع؟
يبتسم صاحب المكتبة ابتسامة صفراء ويجيب: “حلوة وشعرها أشقر”. ثم يغمز بعينه ويضيف: “سكسية”.
.
تابع نتيجة رقم 3:
نصيحة إضافية لناشر شاب:
إذا كنت عزيزي قد اخترت الطريق الأول فلا نصيحة لك. أما إذا كنت عزيزي “شاطر” و”حربوق” واخترت الطريق الثاني، فأضف إلى النصائح النصيحة الذهبية التالية:
– يجب أن يكون لديك نظرة ثاقبة في الكاتبات اللواتي تنشر لهن، فإن كانت “سكسي” انشر لها فوراً ولا داعي أن تقرأ الكتاب. فإنه سيبيع حتى لو كان بأوراق بيضاء.
.
4- المروية الرابعة (يتبعها: نتيجة رقم 4):
مشهد مسرحي، أبطاله: عامل 1 في دار نشر، عامل 2 في دار نشر، مدير مكتبة لها فروع، عامل في المكتبة يظهر سريعاً ثم يختفي.
.
يدخل مدير المكتبة إلى جناح دار النشر، وبعد التحيات والسلامات، يبلغ العاملين في دار النشر أنه اتفق معهما منذ سنة على أن يعيد كل الكتب التي جركتها بطيئة، وعلى هذا الأساس فإنه سيقوم بتسليمهم 10 صناديق اليوم كـ “مرتجع”.
ثم يبدأ باختيار العناوين الجديدة التي يريد ضمّها لفروع مكتبته العتيدة، وهو يتجوّل بين رفوف الكتب يقع نظره على كتاب قديم، أخذه من السنة الماضية
م. م: هاد الكتاب فاشل، أخدت منه 10 نسخ ما باع غير نسختين.
ع 1: والله الكتاب مانو فاشل أبداً، الكتاب عظيم، بس يمكن قراء مكتبتك هنن الفاشلين، وبيحبوا الأشياء السهلة والبسيطة.
ع 2 (يهمس في أذن ع 1): لا تقلوا هيك… هلق بيزعل… خلص قلو إي شو ما بيقول.
ع 1: لا طبعاً ما بقلو أي.
ع 2: خلص خلص بعدين منحكي.
في هذه الأثناء يدخل أحد العمال في المكتبة جالباً معه 10 كراتين مرتجع. يضعها في الجناح ثم يغادر.
م. م: هي الكتب اللي ما اتحركت عندي، وهاد كشف بالكميات ضمن الصناديق.
يأخذ العامل 1 الكشف ويقرأ ما فيه.
ع 1: هاد الكتاب مرتجع نسختين، وأنت اخدت 15 نسخة يعني انباع خلال هالسنة 13 نسخة، معناها كتاب بيشتغل، ليش عم ترجعوا؟
م. م: 13 نسخة بسنة قليل. بكل الأحوال أنا تركت نسخة إذا انباعت برجع باخد غيرها.
ع 1: بس أنت بتعرف انو انا ماعندي مستودعات ببلدك، يعني بحال انباعت هالنسخة ما عاد فيي اعطيك بدالها لبعد سنة لأرجع اجي عالمعرض مرة تانية، وبهالحالة الكتاب رح يكون مقطوع سنة كاملة بمكتبتك، ويعد سنة بيصير الكتاب قديم والناس ما بتسأل عنه متل هلق. وممكن ينسوه.
م.م: ماعندي أمكنة… تفضل زورني بالمكتبة وشوف بعينك… الكتب فوق بعضها… ما بقدر ضل حاطط كل هالكميات عندي.
ع 2: خلص خلص متل ما بدو الأستاذ… أهلا وسهلا أستاذ.
ع 1: لك شبك أنت؟ كل شي متل ما بدو الأستاذ؟؟ طوّل بالك… كتاب جديد صرلو سنة واحدة مطبوع وعم يتحرك حركة لا بأس بها… ونحنا عم نقول للكل أنو كتبنا موجودة بمكتبته يعني إذا بيفوت قارئ وبدو هالكتاب مارح يلاقيه عنده… كيف بدك بعدين ترجع تأمنه لهالقارئ، وإذا هالقارئ بيعرف المؤلف وراح قله كتابك مو موجود بهالمكتبة الفلانية كيف بدك تخلص من لسان الكاتب؟؟؟؟
م. م: عيني والله مافي مجال اتركه. كل يوم في كتب جديدة عم تطلع، وانت بكل لحظة مضطر تختار شو بدك تخلي وشو بدك ترجّع للناشرين. الوضع ما بيحمل.
ع 2: إي والله معك حق يا أستاذ.
تبدو على ع 1 ملامح الاستياء لكنه يضبط أعصابه ويصمت ويتابع القراءة في ورقة الكشف أمامه.
ع 1: عفواً سيد فلان، هاد الكتاب عامل مرتجع منه 97 نسخة!!!
م. م: إي والله، كان عم يتحرك كتير أول شي بعدين فجأة ما عاد تحرك، يمكن نزل مقرصن على الانترنت منشان هيك ما حدا عم يشتريه.
ع 1: إي بس إذا خمس مكتبات متلك بيرجعولي 100 نسخة من كتاب بيصير عندي فجأة 500 نسخة من الكتاب وانا بكون مفكر انو الكتاب نافد وعامله طبعة تانية. فجأة بكتشف انو نص الطبعة الأولى رجع لعندي. طيب هاد منطق؟
م. م: يا أخي والله انت قصتك قصة. يعني انا متفق معك من الأساس على أني رجّع غير المباع. بعدين شو بتطبع انت وشو ما بتطبع مو مشكلتي… أنا موزع شو دخلني اذا انت اخدت قرارات خاطئة.
ع 1: قرارات خاطئة؟؟؟ وقت كتاب بيصير كميته عندي بالمستودع صفر وبرجع بطبعه بيكون قرار خاطئ مني؟؟؟ ليش أنت ما أخدت قرار صائب وبدل ما تاخد 200 نسخة من الكتاب اخدت بس 100 مثلا؟
م. م: عندي 10 فروع بكل فرع 20 نسخة وكان الكتاب عم يتحرك وفجأة وقف… شو بدي أتنبأ بالغيب؟ طيّب اذا ماحطينالكن كتابكن بكل الفروع بتزعلو واذا حطيناه ورجعنالكن كمية بتزعلو… وفوق هيك ماعم ترضوا تعطونا اكتر من 50%….
ع 1 (يقاطعه منفعلاً): هلئ شو دخل الحسم بالشي اللي عم نحكيه؟ الحسم وطريقة التعامل شغلة اتناقشنا فيها من سنتين وقت بدينا تعامل… لهلق لسا عم تحكي فيها؟
م. م (بلهجة قاطعة): ما بقدر خلي عندي 100 نسخة من كتاب ما بيتحرك.
ع 2: خلص خلص… لا تواخذنا أستاذ… هو (ع 1) شوي عصبي وبينفعل بسرعة بس قلبه طيب.
ع 1 ينظر شزراً إلى ع 2 وكأنه يقول له من دون كلام: “خراس”. ثم يقول موجهاً حديثه لمدير المكتبة.
ع 1: طيّب المرتجع وفهمناه، وين كشف الحساب؟ يعني طالما عم تحكي بالاتفاقات وشو اتفقنا وشو ما اتفقنا… فكمان نحنا اتفقنا من البداية انو كل سنة بترجع غير المباع وبتحاسبنا على المباع.
م. م: إي هلئ بدي اعطيك دفعة 300$
ع 1: شو 300$… المبيعات عندك بتطلع بأكتر من 2500$ يعني انت هيك عم تدفعلي أقل من 15% من المبيعات!!!
م. م: بعد شهرين برجع بدفعلك 300$ بس والله الأحوال ضيقة هلق.
ع 1: والله الأحوال ضيقة علينا كمان. شو بترجع بتدفعلي 300 $ الله يرضى عليك. على هالحالة مبيعات هالسنة بدها سنتين لتسددلي ياها. ومبيعات السنة الجاية كمان بدا سنتين وهيك… آخر شي بيصفى عنا مبلغ كبير ماعم يتسدد!!
م. م: شو أنا عم قلك بدي أنصب عليك؟ كلو بيندفع… بس هالفترة مافي سيولة.
ع 1: لا ماعم قلك بدك تنصب عليي. بس كمان انا عندي التزامات ودفعات للمترجمين والمؤلفين والمطبعة و….
يتأهب ع 2 للحديث فيسكته ع 1 بإشارة غاضبة من يده.
ع 1: بعد شهر بدي عالاقل نصف المبلغ مو بس 300$.
م. م: ولا يهمك… خلص هلق حضّرلي هالطلبية وانشالله ما منختلف.
(ملاحظة جانبية تقفز إلى الزمن المستقبل: لا يلتزم مدير المكتبة بدفع نصف المبلغ بعد شهر، ولا يلتزم حتى بدفع الـ300$ التي وعد بها أصلاً، وعلى طول التعامل يبقى هناك كتلة كبيرة من الأموال في ذمة المكتبة للناشر… وتبقى تدور وتدور طوال سنين… وربما تدفع، وربما تنسى، وربما تغلق المكتبة بعد سنين وتذهب هذه الكتلة مع الريح).
بعد أن يغادر مدير المكتبة الجناح ينبري ع 2 للكلام:
ع 2: لك يا اخي انت شو بتحب الأخد والعطا… قلك كتاب فاشل… خلص قلو أي معك حق كتاب فاشل… هاد صاحب أكبر مكتبة بالدولة الفلانية، ما منقدر نزعّلو.
ع 1: لا طبعاً ما بسمحلو يقول عن كتاب أنا آمنت فيه، ونشرته بكل اقتناع انو كتاب فاشل. شو يعني اذا صاحب أكبر مكتبة بالـ(X) بسمحلو يحكي شو مابدو؟ طز عليه وعلى مكتبته وعلى كل المبيعات وقت بدي اسمحله يقول عن كتاب جميل متل  كتاب فاشل.
ع 2: والله انت عقلك مو تمام. وبكرا بعد سنتين رح تفلس وتسكر الدار.
ع 1: طيب شكراً لتنبؤاتك العظيمة. خلينا نجرد هالكراتين أحسن من هالحكي.
.
نتيجة رقم 4:
والله يا عزيزي الناشر الذي اخترت الطريق الأول أنا غاية في الحزن عليك، ولذلك ومن هذا المنطلق سوف أقدم لك بعض النصائح عسى ولعل تفيدك في مشوارك الذي يتبنؤون لك بأنه قصير، وأنت مصرّ على أنه يفوق صاحب الظل الطويل طولاً.
1- إذا قال أحدهم عن كتاب من إصدارك بأنه فاشل، فكبّر راس ودافع عنه، لأنه بما أنك مصرّ على مبادئك، ومن الأساس اخترت الطريق الأول، فلا يوجد مفر ولا مهرب، على الأقل حافظ على كرامتك وكرامة كتبك.
2- بما أنك قد عرفت الآن أن معظم العاملين في المكتبات هم تجّار لا يفقهون شيئاً في الكتب والكتاب، فيجب عليك التحلي بالصبر الشديد وأنت تتعامل معهم، لا تتوقع منهم أن يروا الكتاب مثلما تراه أنت. ولا تتوقع منهم أي منطق في التعامل. يعني:
أ‌- المكتبة تظن (ولا أدري من أي يمكن أن تجلب هذا الظن) أن لديك مستودعاً في كل مكان، وبإمكانها أن تطلب أي كتاب منك في أي لحظة. (ربما هي لا تظن ولكنها تريد أن يكون لديك مستودع في كل مكان).
ب‌- إذا اشتروا منك كميات كبيرة من كتاب لأنه كان يبيع كثيراً، فلا تندفع وتطبع منه طبعة ثانية، لأنه ممكن بلحظة واحدة أن تقل مبيعات هذا الكتاب بصورة خارقة، وعندئذ ستكتشف أنه عاد إليك عشرات ومئات ضاحكة باسمة.
ت‌- التاجر يريد دوماً سيولة في يديه، ولذلك فإنه سيحاول تأجيل الدفع ما أمكنه ذلك، متجاهلاً أن جزءاً من عملك أيضاً هو التجارة، وأنك بدون سيولة لن تستطيع طبع كتب جديدة ليعمل هو بها ويكبّر أمواله. لذلك احرص على أن يكون في يديك دوماً رأس مال كبير كي لا تتوقف فجأة بسبب عدم دفع الناس للمستحقات التي عليهم.
3- أكرر نصيحة سابقة لك: يجب أن يكون لديك رأس مال كبير يكفيك 10 سنوات إلى الأمام. وإلا فإنك ستتوقف في السنة التي ينتهي فيها رأس مالك. السنة العاشرة هي السنة التي يمكنك البدء فيها بالاعتماد على موارد السنوات العشر لتمويل سنة جديدة.
4- عزيزي، بما أنك اخترت الطريق الأول، فاعلم أن هناك جزءاً من أرباحك سيذهب كديون معدومة. لأن هناك كثيراً من التجار سيفلسون ولن يردوا لك أموالك، وكثير من التجار نصابون يضحكون في وجهك كلما رأوك ويؤكدون لك: “الك معنا وما معنا” (وربما يكملون أغنية وسام الأمير: “الك معنا وما معنا.. ولمّا يكون معنا الله لا يجمعنا”)، على مدى أزمان وأزمان، حتى تمل وتيأس وتقتنع بأنه يجب عليك أن تغني حين تلقاهم: “سامحتك سامحتك”. (ولكن حذار من أن يجرفك اللحن فتكمل “ودا مش غضب عني ولكن لأني بحب بضمير”، فلا يمكن لمخدوع أن يحب خادعه بقلب كبير أو صغير حتى).
.
5- المروية الخامسة (يتبعها: نتيجة رقم 5):
مشهد مسرحي، أبطاله: عامل في دار نشر، مديرة المشتريات في مكتبة لها فروع.
.
تدخل مديرة المشتريات على جناح الدار، تحيي ومباشرة تنطلق في جدول الأعمال.
م. م: نحنا حابين نتعاون معكم ويصيروا كتبتكم موجودين بفروع مكتبتنا.
ع: أهلا وسهلا.
م. م: شروطنا بالتعامل:
1- انا ما خصني بتكاليف الشحن، كتبك لازم توصل على الفرع الرئيسي للمكتبة
2- باخد الكتب على الحساب وبدفع بعد 120 يوم وطبعاً ما بدفع غير على اللي انباع أما اللي ما انباع فشو خصني فيه؟ بردلك ياه وكمان الشحن بالرجعة ما خصني فيه. بدك ترجع تشحنه من عنا أنت.
3- الحسم 50% أو 60% حسب شو بتعطي للباقي، وبدك تنتبه أنو ما فيك تكذب بهالموضوع لأنو بدك توقع على كونترا بيقول انك ما بتعطي غيرنا حسم أعلى مننا.
ع: لحظة لحظة سؤال… شو يعني اللي ما انباع شو خصني فيه؟ يعني اللي ما انباع بتكبّوه بالطريق يعني؟
م.م: لا أكيد مش هيك مسيو بس انو منضبو بكراتين ولازم تستلمو فوراً.
ع: إي بس أنا ماعندي مستودعات بهالبلد وما عندي موظفين بهالبلد وما بقدر استلمو بعد 120 يوم. يعني على الأقل لأرجع اجي لهون لبعد سنة عالمعرض الجاي.
م.م: ما خصنا بهالشي مسيو. شروطنا هيك بالتعامل.
ع: طيب والسؤال التاني يعني اذا انا وقعت على الكونترا انو مابعطي غيركن حسم أعلى وبعد ما وقعته بشي كم شهر اجا موزع واخد مني كميات كتير كبيرة وبدو يدفع كاش مش على الحساب متلكن فبقلو ما فيي اعطيك أكتر من 50% لأنو في مكتبة بتاخد مني كميات قليلة وما بتدفع كاش موقعتني على عقد بيقول انو ما بعطي غيرها حسم أعلى؟ هاد منطق برأيك؟
م.م: مسيو نحنا هيك شروطنا بالتعامل، واتذكر انت عم تتعامل مع X ]اسم مكتبة كبيرة ولها فروع[ مش مع أي حدا.
ع: طيب في مجال يا أستاذة أنك تشوفي كتبي قبل… وبعدين بتبقي بتقوليلي شو شروطك بالتعامل؟؟؟؟؟ لأنك بلشتي تحكيلي شروطك ولسا ما شفتي أصلا شو عندي كتب!
م.م: إي أكيد أكيد هلئ رح اخد كم نسخة من كم كتاب هدية منك منشان ندرسن ونشوف الترجمة ونوع الورق واحترام الحقوق والطباعة وكل هالشغلات اذا مناسب نحطن بمكتبتنا.
ع: نوع الورق؟؟؟؟ احترام الحقوق؟؟؟ الترجمة؟؟؟؟ ومين بدو يقيّم كل هالامور؟؟؟
م.م: أنا.
ع: ممممممممممممممم اذا هيك معناتا ممتاز. خفت يكون اللي بدو يقيّم هالأمور حدا ما بيفهم.
.
نتيجة رقم 5:
والله يا صديقي تعبت من النتائج، وكما أنت شايف كل الدروب تؤدي إلى روما.
نصيحتي الأخيرة الك بتلخصها جملة لعادل إمام: “إتكل على الله واشتغل رقاصة”. وكرروها “الفوركاتس” بأغنية “طال انتظاري”: “وانت غاشي وده ما بيسواشي والهيئة حظك كلو ماشي عالبقباشي… كول نجاصة ومنقدّملك مصاصة اتكل ع الله ويلله اشتغل رقاصة”.
.
6- المروية السادسة (محاكمة ناشر – تأريخ في وثائق):
مختارات من محاضر متخيلة لجلسات محاكمة متخيّلة
.
القاضي: السيد فايز علام أنت متهم بأنك لا تجيد التعاطي مع المكتبات والموزعين.
المتهم: أنا أتهم المكتبات والموزعين بأنهم لا يجيدون التعاطي مع الكتب.
القاضي: وأنت متهم أيضاً بأنك تدعي على كثير من دور النشر بأنها لا تحترم الكتاب.
المتهم: صحيح. حين أسمع بأذني وأرى بعيني كيف يتزلفون إلى المكتبات والموزعين وكيف يرضون بإهانة كتب آمنوا بها ونشروها مقابل حفنة من الدولارات فمن حقي إذاً أن أدعي بأنهم لا يحترمون لا كتبهم ولا كتّابهم.
القاضي: وهل كل دور النشر تفعل ذلك؟
المتهم: معظمها. ومن لا يفعل ذلك فسيكون مصيره كمصيري.
القاضي: ولكن هناك دور كثيرة ناجحة وكتبها موجودة في كل المكتبات، كيف تبرر ذلك؟
المتهم: لكل دار تبرير مختلف، فدارٌ طبعت لفلانة وبسببها صارت كتبها مطلوبة، ودار أخرى ترجمت لفلان فصارت كتبها مطلوبة، ودار ثالثة نشرت للأمير فلان أو للوزير فلان… ودار رابعة… ودار خامسة…
القاضي: وأنت متهم بأنك تشيع أن كل دار لها طرقها الخاصة (التي قد تكون ملتوية) لتتدبّر أمر بقائها.
المتهم: لم أقل كل دار، وإنما قلت إن معظم الدور لها طرقها الخاصة (التي قد تكون ملتوية) لتتدبّر أمر بقائها.
القاضي: هل لك أن تذكر لنا بعضاً من هذه الطرق؟
المتهم: النشر على حساب المؤلف (بشكل جزئي أو كليّ) – الكذب في عدد الطبعات – أخذ منح ترجمة ونشر بقيمة تفوق القيمة الفعلية – بعض الدور عملت حين كانت في بداياتها كموزع لدور أخرى ونصبت منها أموالاً طائلة وهي حتى الآن لم تعد ما سرقته إلى أصحابه – بعض الدور تبيع كمية كبيرة من كتبها لجهات حكومية في بعض الدول العربية ولا ندري ما مصير هذه الكتب (هل تبقى لتتعفن في المستودعات مثلاً؟) وهل هو أخلاقي أن نبيع كتبنا فقط من أجل تحصيل النقود دون أن نعرف إلى أين يُذهب بها وما الذي يحلّ فيها؟ – بعض الدور لديها مكتبات وهي تعمل بأموال الناس ولا تسدد ما عليها من مستحقات إلا بعد مضي وقت طويل وفي هذا الوقت تعمل في هذه الأموال وتستعملها كرأس مال خاص بدار النشر التابعة لها…. وهناك طرق أخرى كثيرة.
القاضي: ولماذا لا تفعل الشيء نفسه؟
المتهم: لا أقبل.
القاضي: قلت إن هذا حال معظم الدور، وما هي حال بقية الدور إذاً؟
المتهم: كحالتي. يعانون ويخسرون ولكنهم مع ذلك مصرّون على ألا يتركوا النشر للّصوص والتجّار.
القاضي: رُفعت الجلسة.
.
مشهد ختاميّ:
إيميل صادر من فايز ومرسل إلى مروان بتاريخ 25-12-2018
.
عزيزي عندك حلين: إما لا تسمح لي بالتعاطي مع المكتبات والموزعين مرة أخرى، وإما ستخسرهم كلهم في القريب العاجل.
ولكم الصبر ودعواتي القلبية على ما ابتلاكم.
كل المودة
فايز
.
ملاحظة ختامية:
كل ما ورد تحت: “هذا بوست طويل جداً” وحتى انتهاء المروية الخامسة هو تجارب حقيقية، تم نقلها هنا كما حدثت دون أي تدخل إلا في اختصار كل ما لا يمت للموضوع بصلة.
.
ملاحظة أخيرة غير ضرورية:
لدي عشرات القصص والحوادث الأخرى الشبيهة، ووالله ما منعني من ذكرها إلا:
1- أني خفت إملال من بدأ بهذا “البوست” على الرغم من تحذيري الابتدائي.
2- أني بدأت بكتابته في الساعة الثانية وها هي الساعة تشير إلى الخامسة وبضع دقائق، وإني والله قد آلمني ظهري، وصدعني رأسي، وسئمت تكاليف التوزيع، ومن يعمل في التسويق فترةً لا أبا لك يسأم.

 

ـــــــــــــــــــــــ

  • من صفحة الكاتب والناشر فايز علّام على الفيسبوك.

منهل السراج: الرواية مساحة لاختبار الذاكرة والزمن وقراءة التحولات

$
0
0

لكل رواية أسلوبها، أساليب كثيرة يمكن للروائيين الاشتغال بها في سرد حكاياتهم، وفي كتابتها، سواء من حيث اللغة أو الموضوع. لكن موضوع السرد قد يصبح في أحيان كثيرة هو السيد المسيطر الذي يفرض على الكاتب الأسلوب. وخاصة إن كان هذا الموضوع واقعا صعبا مثل الروايات التي تناولت الواقع السوري اليوم. “العرب” كان لها لقاء مع الكاتبة السورية منهل السراج، للحديث عن الأسلوب المختلف الذي اتبعته في روايتها الأخيرة حول واقع الحرب والشتات، وللإضاءة على التقنيات التي وظفتها في الكتابة، وعلاقة فن الرواية بالذاكرة والمدينة.

تُهدد الكتابة الزمن وإيقاعه، وتشكل مساحة يتحرر فيها المؤلف وشخصياته من أعراف وقواعد الواقع، لخلق أزمنة مائعة، يتداخل فيها الوعي والذاكرة مع المتخيّل والحكايات التاريخيّة، لتبدو الرواية أشبه بـ”اقتباس″ من الزمن، تُرتجل قواعده أثناء الكتابة، فتفكك وحدة الواقع وتماسكه المنطقيّ.

نتلَمس ملامح التلاعب بالزمن والوعي لدى الروائيّة السوريّة منهل السراج في روايتها الأخيرة “صُراح” الصادرة عن دار “سرد”، حيث تكوينات الجُمل والفقرات في الرواية مختلفة عن الصيغة التقليديّة للجُملة العربيّة، سواء عبر ترتيب الكلمات أو البدء بفعل “كان” في العديد من الفقرات، وما يلفت الانتباه أن هذه الصيغة مُتقصّدة وتتكرر، وكأنها خيار جماليّ يغير من إدراكنا للزمن الذي تدور ضمنه الرواية.

خرق للمألوف:

تعقب السراج بقولها إن السوريين ضحّوا بكل شيء، ومن بين تلك التضحيات، التمسك بقواعد التعبير المعروفة أو المعهودة، فالكتابة لم تكن بالفعل اليسير، وقد مرّت ككاتبة بمراحل كانت شاشة الكمبيوتر فيها ترتجف للكلمة وللحرف، وكأنها كروائيّة عاشت في حرب كتابية من أجل أن تكتب.

وتضيف “مفهوم الكتابة الجمالية بالسجية يتناقض مع سلوك الحرب، ولكني فعلت وكتبت ضمن هذا المجال الخارق للأسلوب الكتابي المسيطر، كنت أقارب استطاعة المحارب وأشبهها باستطاعة الكاتب الروائي.

كما تقصّدت في بعض المقاطع أن أكتب بسخرية من كل شيء، ومرات بسخرية من القواعد كلها بما فيها مخاطر الحروب والصراعات، كنت أنظر وأتابع وأسجل ربما أكثر مما أخلق أو أبدع، أو من الممكن أن يكون الخلق والإبداع ينتشران حولي مكانيا بصورة أكثر ترتيبا مما هو عليه في الصفحة المكتوبة”.

وتتابع السراج “لم تكن تجربة سهلة، ويمكنني الآن أن أقول إنني لم أنوِ هذا، لكني فعلت وجعلت للرواية خاتمة وأرسلت العمل للنشر كنتيجة طبيعية للمرحلة، ربما كان يأسا أكثر منه طموحا أو صفاء ذهنيا، فلا يوجد روائي يستمتع بالحرب أثناء الإبداع الروائي، ولكن أن يقال: توقف الكاتب عن الكتابة، يعني أنه سيكرر الحرب مرة أخرى”.

نقرأ في الرواية عن معضلة الكتابة ذاتها، وكأن حياة صُراح بطلة الرواية تمرين على “كتابة” ما سيأتي لاحقا، كتابة لا نعرف شكلها، لكن نعلم أنها عصيّة، ما يجعلنا أمام أحجية، تحمل نوعا من الخلاص الوهميّ، وخصوصا أن صراح لا تواجه “الكتابة” ذاتها وتاريخها المنفصل عنها، بل تواجه الذاكرة والمدن وتجربتها الشخصيّة.

هنا تضيف السراج بقولها إن للكتابة الحق بأن تغير وتقلب المقاييس والمجتمعات والمدن وأن تواجه الذاكرة وأن تُرسل بعضا منها إلى الجحيم، كذلك يمكنها أن تقنع المجتمع بالقراءة ومحبة الكتاب، فالكتابة مبادرة مع الوجود أكثر مما هي مبادرة مع الأفراد أو الناس، ومبادرة مع العقول أكثر مما هي مبادرة مع الذوات، فالكتابة خرق للمألوف المراقب، ويمكن القول، إن للكتابة أسسا خاصة بالكاتب، لكنها ليست أوهاما”.

المغتربون والأماكن:

تتحرك بطلة الرواية بين المدن والأزمنة وكأنها كلها تحدث “الآن”، وكأن وعيها مهيمن على ذاكرتها طوال الوقت، كما نراها دوما تسعى للرحيل أو ترك كل شيء، فلا زمن مثاليّا لها، نسأل هنا السراج إن كانت لذلك علاقة بتجربتها نفسها ككاتبة تبحث عن الإلهام، أم بالظروف التي شهدتها، سواء في حماة أو أثناء اندلاع الثورة في سوريا، لتجيب الروائية بقولها “إن سؤال صُراح الأساسي في الرواية يخص الثقافة عند جسر رهيب، فمرات نجدها مثل راقصة الباليه التي أتخمت جمالا واكتمالا ومرات مثل مستلبة وأسيرة، كما تختلط عليها مرات صور الإلهام بأفكار الغير”.

فالسراج تعتقد بأن الإرادة تكمن في التمييز بين الإلهام الكتابي الحقيقي الجميل بمعنى أصالة اللغة والرؤية الذاتية، وبين توارد أفكار محيطة قد لا تكون إلا مجرّد أشباح دونكيشوت منفرة بتحرشاتها.

وتضيف “أمتلك مع بطلة الرواية رابطة متينة وأشترك معها في ألم ذاتي عايشتُه، فقد كان للأحوال السورية والثورة فعل سلبي أثناء العمل، وأشدد على كلمة ‘كان‘، إذ حدث أن فكرت مرات بأهمية الحذر أثناء استخدام الماضي سواء في الكتابة أو الحياة اليومية، وهذا ما جعلني أجرب أن أخترق الحواجز، وربما كانت معظم سطور الكتابة فوق ما يسمى بالخط الأحمر.

أما حماة فبالطبع لها دور وللظروف المكانية الحالية دور أيضا، أما سعي صُراح الدائم للاستقرار، فيتضح في سعيها للسفر إلى سوريا واختراق الحدود الجغرافيّة، وهنا كان السؤال، هل سوريا الداخل هي المنفى؟ هذا السؤال كانت عاجزة عن الإجابة عنه، فصُراح مثل خَرِفٍ يستطيع أن يوقف أي عابر ويسأله شيئا”.

تسمّي صُراح حماة باسمها، وباريس باسمها، لكنها تشير إلى المدينة التي تقطنها بـ”ب”، وكأن “الآن وهنا” في الرواية هامشي أمام سلطة الذاكرة ومُدنها، فهل في ذلك انعكاس على الشتات السوري؟ حكايات المدن التي تلاشى بعضها وتحولت إلى ذاكرة تهيمن أحيانا على “الآن” وتجعل الفرد في اغتراب دائم عمّا حوله.

وتعقب منهل السراج هنا بأنّ لبّ هذه الرواية هو تشتت العلاقات، والتمرين على لمّ شملها. فحماة كانت حاضرة كماض. أما باريس فهي مُجمّع سوري وثقافي أوروبي غير عادل، وقد فقدت تلك المدينة الكثير من هويتها كمدينة أوروبية ومن وفائها كمُغترَب، وتنهي السراج حديثها بقولها “باريس مدينة فقدت فيها رابعة عدي، صديقة لي وعالمة ذرة من حماة، وكَشف مصيرها قضية هامة بالنسبة إليّ، أما ‘ب‘ فلا أدري لِمَ صار المكان هكذا؟ قد يكون السبب هو اللغة، فالأبطال يعيشون في ستوكهولم، أما بالنسبة إلى موضوع الاغتراب، فهو همّ السجين، فإن حصل المرء على حريته فأيّ مكان يمكن أن يكون وطنا له”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

عن صحيفة العرب اللندنية

أحلام مستغانمي في “شهيا كفراق”…القراءة بلا متعة

$
0
0

لطالما تفاديت الكتب الأكثر رواجاً وانتشاراً، لا أعرف السبب بالتحديد، ربما مزاجيتي تجعلني أغض النظر عنه، أضافة الى هروبي من الدّرجة (الموضة) القرائية والميديائية لبعض الكتب، ومنها كتب الجزائرية – اللبنانية “المليونية” أحلام مستغانمي التي، باتت إسماً لامعاً منذ أصدرت روايتها “ذاكرة الجسد” ثم “فوضى الحواس”. فعلى مدى سنوات، كنت أسأل بعض المواطنين والمواطنات وبعض الفنانات ماذا تقرأن (أو تقرأون) يكون الجواب التلقائي “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي أو “الخميائي” لباولو كويلو وربما روايات دان براون، الى درجة أن الحيرة روادتني، وبتّ اسأل إذا كانوا فعلا يقرأون هذه الكتب، فالذي يقرأ أو لا يقرأ، تكون على لسانه، وهي قرينة كتب الأبراج، وتحظى باهتمام “شعبي”، ويذمها الكتّاب والكتبة في مقالاتهم وتعليقاتهم وأحاديثهم، وبعضهم يحسد بسبب مبيعاتها “الهائلة” وأرباحها، في مقابل المبيعات الخجولة للكتب الرصينة…

وحين حصلت في المدة الأخيرة على كتاب مستغانمي الجديد “شهياً كفراق” عن دار هاشيت-انطوان في بيروت، يقال إنها أصدرته بعد غياب أربع سنوات، فكرت أن أهديه لأحد الزملاء الذين يحبون قراءة الروايات، فقال لي: “لا أريده. إن أحلام تتفلسف كثيراً”، ابتسمت وعدتُ أدراجي، واضعاً الكتاب المطبوع بأناقة واتقان في حقيبة اللابتوب، وعند المساء في زاوية من زوايا منزلي، بدأت افلفشه من باب الفضول، علني أكسر حاجز الهروب من “الأكثر انتشاراً”، و”تأثيراً”، ربما أجد ما يدفعني للكتابة وإبداء الرأي ولو بعد حين. بدا لي عنوان الكتاب مثل عناوين المقالات في الصفحة الأخيرة من المجلات الفنية، وعلى الغلاف الأخيرة تضع الروائية والكاتبة صورتها في مكان يوحي بالشرق حيث الزخرفة، وتحمل جهاز اللابتوب وتبتسم للكاميرا، مرفقة بعبارات “ما كنت أريد من العالم كله إلا أنت، واليوم أقول: “لك العالم كل إلا أنت”، وتقتبس الروائية الجزائرية تصريحاً لايرينا بوكوفا، المدير العامة السابقة لمنظمة اليونسكو تقول عن أحلام “هي امرأة عظيمة”، و”كاتبة كبيرة”، و”رائدة في مجالها مناضلة تنحدر من سلالة الكتّاب الذين تبنوا عبر التاريخ القضايا الكبرى”، ولم تذكر ايرينا ما هي “القضايا الكبرى”، ولا “سلالة الكتاب”. وتعرف أحلام نفسها، عدا عن شهادتها الجامعية في علم الاجتماع من إحدى الجامعات الغربية الباريسية، تصنيفها من مجلة فوربس بـ”الكاتبة الأكثر انتشاراً”، و”باعت كتبها مليوني نسخة”، ولديها “أكثر من 12 مليون متابع على صفحتها في فايسبوك”، وتقول عن نفسها “مليونية”… في أحد أخبارها تقول إنها وقعت كتابها “سبع ساعات متواصلة”، وحصلت على الأكثر مبيعا في فئة الرواية، ومع ذلك، ففي إحدى مقالاتها التي نشرت فايسبوكيا، تفوح من كلماتها رائحة “المظلومية”، إذ تتحدث عن “مجد” الفنان الجزائري(المطرب) الذي يصبح مشهوراً وحاضراً بسبب أغنية، وتعرف بلاده بالنسبة إلى الجمهور باسمه، بينما الكاتبة (وهي تتحدث عن نفسها)، تبقى سنوات تكتب كتابها ولا تأخذ حقها.

وتسرد أحلام في “شهياً كفراق”، قصّة الفراق، لرجل فقد ثقته بالحبّ، رجلٍ غامض، يخاطب ذكريات أحلام الكاتبة والإنسانة، التي أرادت للكتاب أن يسرد مواقف ولحظات عاشتها مع “قامات عاصرتهم” مثل نزار قباني وغازي القصيبي، وأخرى عائلية خاصة، وما تكتبه أحلام يبدو أشبه ببقايا كتابات سابقة، تدون كلاماً متشعب التوجهات، وغير محسوس، لا هو بالرسائل ولا هو بالرواية، هي كتابات ربما لا تصل الى مكان في سياقها. وتقول “كتبت كثيراً من العواطف في تضادها وفي ذهابها وإيابها، عن علو الأحاسيس وانهياراتها، عن النفس البشرية وتناقضاتها”. وتضيف “أصبت غالباً وحدث أن أخطأت وما زلت أتأمل دهاليز النفس البشرية ومتاهاتها. فللكاتب واجب تأملي تجاه المشاعر ما دامت العاطفة هي ما يحكم الناس في الحياة وما يحرك الأبطال في الروايات وهي التي بمنطقها المجنون تحكم العالم”. و”الواجب التأملي” من غير تأمل ومن غير دهاليز، بل تغلبه خواطر من هنا وهناك، فهي تعتبر العشق مضن، ومعضلة المبدع أنه لا يقبل بأقل من العشق حريقاً، وتصف لوعة العاشق بقولها “أحتاج لأن أستعين بما بقي من شظايا قصتك لكتابة نص شهي والقيام بإعادة اعمار عاطفي لقلوب الحق بها الحب كل أنواع الدمار. لكن القصص ليس ما ينقصني للكتابة ولا النصوص الجميلة، ينقصني الألم فكل ما تألمت من أجله في الماضي أصبح مصدر ندمي وعجبي، بما في ذلك تلك الأوطان التي مرضت يوم أحتُلت، وتلك العواصم التي بكيتها يوم سقطت، لتنجب لنا بعد ذلك قطّاع طرق التاريخ وأناساً لا يشبهون في شيء ممن كنت جاهزة للموت من أجلهم”. وما نستخلصه من القراءة العابرة، ان النص المستغانمي يتغنى بالشهية لكنه يفتقد المتعة، ويتحدث عن الإعمار العاطفي، وهو يحتاج بناءً في السرد…

والقراءة أحياناً تكون مجرد فضول، وربما الفضول إستهلاك للوقت في غير محله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جريدة المدن الإلكترونية

هل صنعت روايات الجيب جيلا من الكتّاب؟

$
0
0

قرأ معظم كتاب الأدب والفن روايات أغاثا كريستي البوليسية، رجل المستقبل، رجل المستحيل، زهور، ماوراء الطبيعة وغيرها. فمثلا قال نجيب محفوظ: بدأت قراءاتي بقراءة الروايات البوليسية، وعبد الرحمن منيف كتب في كتابه “سيرة مدينة” أن روايات الجيب كانت خبزاً يوميا للكثيرين.
في هذا التحقيق مبدعين كانت روايات الجيب بداية شغفهم بعالم القراءة. وهنا نسألهم، كيف أثّرت هذه القراءات في اختيارهم لمسار الكتابة؟

يرى الشاعر المصري مصطفى أبو مسلم رغم أن معظم أبناء جيله مواليد التسعينيات عاصر روايات الجيب عندما كادت تختفي من عالم الأدب نوعا ما. لكن لا يمكنه أن ينكر أن روايات مصرية للجييب الصادرة عن المؤسسة المصرية للنشر خلقت لرواية الجيب في الشارع المصري شكلا عصريا أثر في معظم طوائف الشباب على اختلاف ذائقاتهم.

وتابع: مازلت أتذكر صديقي أحمد الخياط والذي كان يتفاخر أمامنا دائما بجبل من روايات نبيل فاروق الذي يحتفظ به في غرفته. كان معجبا بشخصية أدهم صبري أو رجل المستحيل وبطولاته الخارقة، كان نبيل فاروق يصنع وجبة دسمة تشبع الكثير من هواة افلام الجاسوسية.

بعض سلاسل تلك الروايات حملت في معظمها قيمة البطل العربي المقاتل النبيل الذي يعرف كيف يتغلب على أعدائه ولا يخالف مبادئه فقط. وكنت كلما نظرت لاصدقائي ومدى تأثرهم بتلك الروايات، أدرك ما للكتابة من سحر إذا ما صابت النفس، وأمسك القلم باحثا عن معركتي

تجد هذا في أدهم صبري بطل سلسلة قصص المخابرات: رجل المستحيل ونور الدين بطل سلسلة الخيال العلمي:ملف المستقبل. ولكن كان لصاحب هاتين السلسلتين د.نبيل فاروق رواية تم نشرها على عدة أجزاء من خلال سلسلة كوكتيل ألفين، وكان لها تأثير أكبرعلى تجربتي في الكتابة وهي رواية “أرزاق”. رغم شعوري أنها لم تأخد حقها من الانتشار. لكنها
شكلت في ذهني شكلا جديدا عصريا لنموذج روايات نجيب محفوظ. تأريخ المجتمع سياسيا واجتماعيا بالتوازي مع قصص أبطال تختلف صراعاتهم النفسية والإنسانية وتتصاعد مع الزمن. تلك الرواية في حينها فجرت داخلي الرغبة في الكتابة وشعرت أني يوما ما سأؤرخ حقبة عالمي الصغير في رواية تشبهها.

واستطرد “في العقد الأخير شهد هذا النوع من الكتابة انحسارا شديدا، وذلك لعزوف القراء عنها واتجاههم إلى الروايات الطويلة التي تعتمد على الحبكة السينمائية. بإمكانك تقديم رواية استطيع وصفها بـ الفشار لاتسمن ولاتغني من جوع. فهي مجرد خلطة مكررة ومعلبة لاتقدم أي جديد كأفلام المقاولات، التي لاتتودد لعقل الجمهور بل لغرائزه، وهذا حال روايات الاكثر مبيعا الآن مع الأسف والتي ساهمت وتساهم في تسطيح الوعي الجمعي وتحويل الرواية العربية إلى مجرد مسلسل تركي ساذج”.

لذة قرائية

لا تنكر الشاعرة التونسية الثريا رمضان أن روايات الجيب أثّرت عليها بشكل كبير إذ كانت تعيش مع الشخصيات في كل قصة وتحاول دائما التفكير في نهايات أخرى، خصوصا مع سلسلة عبير وزهور، وأضافت: “كنت أحبذ الروايات البوليسية كروايات أغاثا كريستي فإن عبير وزهور نمّت فيّ الجانب الوجداني في الخيال ومن ثم في الكتابة، ومن هنا بدأت مسيرتي التي كانت مجرّد خواطر ثم قصة بدأت بكتابتها في سن 18 سنة بعنوان (شهرزاد القرن 21) ولم أكملها حتى اليوم”

وتقول رمضان: لا أستطيع تذكر عناوين محددة بسبب طول المسافة الزمنية التي تفصلني عن تلك الفترة، لكنني مازلت حتى اليوم أستمتع بروايات أغاثا كريستي البوليسية وأذكر منها (قطار الشرق) مثلا. أسلوب التشويق الذي تستخدمه أغاثا كريتسي في كتاباتها يشدّني كثيرا لأنني أعتبره مهما في شد القارئ وهو أيضا الأسلوب الذي أحب استخدامه في كتاباتي. لا أعتقد أن أحدا منا لم يكبر مع هذه الروايات، روايات عبير وزهور والقصص البوليسية لأغاثا كريستي وغيرها كثير، فهي تجربة يمر بها كل من شغُف بالمطالعة، نمر بها في فترة نكون بحاجة فيها إلى البحث عن قصص تشبهنا خصوصا فترة المراهقة، حيث نتطلع دائما لقصص رومانسية تعبّر عن ذواتنا وتجاربنا المبتدئة في الحب.

أكد الروائي العراقي هيثم الشويلي أنه لايخفى على الجميع كيف أثرت روايات الجيب في جيل كان يتعطش للقراءة في زمن لم تتوافر في وقتها أي شيء من مغريات التكنولوجيا الحديثة كالقراءة الإلكترونية الحديثة أو ملفات pdf التي أصبحت تشبه إلى حد ما روايات الجيب السائدة في تلك الفترة.

وربما لصعوبة توفر الكتاب في الفترات السابقة أو بالخصوص لصعوبة الحصول على الكتاب إذ كان الكتاب محاصراً تماماً في فترة من فترات الحكم السائدة. فكانت روايات الجيب هي المتنفس الوحيد للقارئ العاشق للقراءة. أتذكر روايات عبير صغيرة الحجم. تلك الروايات الرومانسية المغرية للشاب المراهق الباحث عن قصص العشق والغرام، وكنا نستغرب من كمية الجرأة المطروحة في متن النصوص والدهشة التي تتملكنا في وقتها. أتذكر إني ذات مرة حين كان عمري أحد عشر عاماً دخلتُ إلى مكتبة بسيطة ورحتُ أتفحص مجموعة من الروايات ووقع ناظريّ على رواية وحيدة من سلسلة روايات روكامبول وكان عنوانها من مجموعة العناوين التي لم تصل للمكتبة سوى هذه الرواية اليتيمة. (روكامبول في السجن). وحين قرأتها تأثرت كثيراً بل وشدتني وجعلتني لا أفارق هذا العالم الساحر والمدهش. لكن الآن بعد ازدهار النشر وظهور العديد من الكتّاب بدأت تختفي تلك الروايات التي كانت رغم صغرها تحمل لذة قرائية لا توصف للقارئ.

تقول الشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال: منذ مراهقتي بدأت أقرأ روايات الجيب، كانت مغامرة جميلة أدخلتني إلى عالم القراءة، فقد وسعت خيالي كثيرا وكانت بدايتي في الكتابة لأني كنت في ذلك الوقت بعيدة عن عالم الكتابة، لكني كتبت محاولة تقليد هذه الروايات.

لا أذكر بالتحديد اسم رواية من هذه الروايات، لكني أذكر أنها كانت روايات بوليسية، وبالتحديد الألغاز البوليسية، كنت أقرأها بشوق لمعرفة الحل وانكشاف الجريمة، وأضافت:”الآن بعد مرور كل هذه السنوات، أعترف أنها كانت بدايتي للدخول في عالم القراءة والتعرف أكثر على الروايات العالمية الأخرى، صحيح أننا ابتعدنا الآن عنها قراءة وكتابة، لكنها ما زالت جزءا مهما من ثقافتنا ، لا أعرف كيف ذلك، لأن تأثيرها في لاوعينا، أكثر ما فعلته بنا هو تلك اللحظات التي سرقناها للذهاب بعيدا عن البيت أثناء القراءة. اللحظات السعيدة التي نما فيها خيالنا”.

الرواية نت

الطاهر بن جلون الكتابة ضد القدر

$
0
0

الطاهر بن جلون روائي وشاعر ومفكر مغربي يقيم في فرنسا ويكتب بلغتها عن قضايا العرب والمسلمين في بلدانهم وفي أوروبا، وفي رحلاتهم وهجراتهم المحفوفة بالموت والعنصرية والضياع. قبل ثلاثين سنة من اليوم، تُوج مبدع رواية “ليلة القدر” بجائزة غونكور الرفيعة، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، مثلما توج بجوائز أخريات، منها جائزة إيمباك الأدبية سنة 2000، وجائزة دبلن للآداب سنة 2004، وجائزة إيريك ماريا ريمارك للسلام سنة 2011… كما ترجمت أعماله إلى 47 لغة. بينما يبقى هذا الكاتب العربي المثير للجدل من أكثر كتاب الرأي متابعة من لدن القراء في الصحف الأوروبية، مثل “لوموند” و”لاريبوبليكا” و”لافانغوارديا”…

هنا في شاطئ أشقار بطنجة المغربية، تحت شمس غشت الحارقة… وقبل الوصول إلى مقر إقامة الطاهر بن جلون، الذي يتردد على المدينة في فصل الصيف، أصر كل شيء على أن يذكرنا بعوالم هذا الروائي العالمي. عشرات المهاجرين الأفارقة التحقوا بنا في سيارة الأجرة بعد فشل محاولة أخرى من محاولات الهجرة السرية نحو إسبانيا. ركب ثلاثة منهم إلى جانبنا، وهم يحكون بمرارة إحباط محاولتهم في هذا الصباح الطري. بينما خاطبنا أحدهم بحسرة كبيرة: الهجرة السرية مغامرة تعرض حياتنا للخطر. ولكن، هنا نحن نفشل حتى في الموت!”.
قلم التحرير

الجديد: وصلتُ للتو، رفقة مهاجرين أفارقة لم يتمكنوا من الهجرة نحو إسبانيا، فعادوا أدراجهم نحو طنجة. أما راديو الطاكسي، فكان ينقل خبر موافقة الرئيس الفرنسي على استقبال 50 مهاجرا من أصل 141 إفريقيا نزلوا في ميناء مالطة، في ما يعرف بكارثة “أكواريوس″، حيث رفضت إيطاليا استقبالهم، وتقاسمتهم دول فرنسا وإسبانيا والبرتغال ولوكسمبورغ وألمانيا. إلى متى ستظل أوروبا تتقاسم هؤلاء الأفارقة والعرب المهاجرين واللاجئين النازحين؟

الطاهر بن جلون: لا يكمن المشكل في دول الاستقبال وحدها، مثل فرنسا وغيرها، بل يكمن، أيضا، في تلك الدول التي ينطلق منها المهاجرون الأفارقة وسواهم، وهي الدول التي تكابد أوضاعا اقتصادية قاسية. صحيح أن ثمة دولا أفريقية تتوفر على إمكانيات مهمة، على غرار نيجيريا والغابون والجزائر، لكن كل هذه الدول لا تعبأ بمواطنيها، ولا تعتمد سياسة لضمان عمل وعيش كريم، كيما يقتنع هؤلاء بالاستقرار في بلدانهم، دون التفكير في مغامرة الهجرة نحو أوروبا، تلك المغامرة المحفوفة بالموت دائما، كما قلت في سؤالك، انطلاقا من الشهادة البليغة لذلك المهاجر الأفريقي.

أما بالنسبة إلى فرنسا، مثلا، وكما قال ميشيل روكار، رئيس الوزراء الفرنسي في عهد فرانسوا ميتران، فإنها “لا تستطيع استقبال كل مآسي العالم، ولكنها تتحمل مسؤولية تجاه هذه المأساة”. لذلك، وجب على فرنسا أن تساهم في مواجهة هذه الظاهرة بما أوتيت من إمكانيات وقدرات.

كثيرا ما اتهمت من قبل البعض بأنني كنت مساندا لنظام الحسن الثاني، وكانوا يزعمون يومها أنني مقرب من القصر. وهذا كله إنما كان كذبا وبهتانا كبيرا، بينما بقيت أتعالى عن هذه الاتهامات المغرضة والدنيئة

اليوم، ما عادت ظاهرة الهجرة تقتصر على الدول الأفريقية. فالحرب في سوريا، وقبلها الحرب في العراق، إلى جانب الحروب الأهلية في الدول الأفريقية، أرغمت الكثير من الناس على الهروب نحو أوروبا فرارا من الاعتقالات وجرائم الحرب التي لا تضع أوزارها أبدا.

في هذا السياق علينا أن نفرق بين المهاجر الذي يفر من بلده لظروف اقتصادية، حيث لا عمل ولا أمل في حياة كريمة، وبين اللاجئ الذي يهرب من دكتاتورية إجرامية قمعية، ومن حرب ضروس. لكن الأمور تشابهت علينا اليوم، وغدونا نلفي لاجئين سوريين وعراقيين إلى جانب مهاجرين أفارقة على متن الباخرة الواحدة، وقارب الموت نفسه. وحين تختلط الأمور إلى هذا الحد، فإنه من الصعب إيجاد حل للمأساة والفجيعة.

الجديد: في روايتك “رحيل” Partir، يتساءل أحد أبطال الرواية “ما سبب هذا الهوس بمغادرة المغرب؟ ما سبب هذه الفكرة؟ ما سبب إلحاحها؟”، فرغم أن أوروبا باتت تعيش أزمات اقتصادية ومالية منذ ما يزيد عن عشر سنوات، لا يزال المغاربة والعرب يحلمون بالهجرة إلى أوروبا. ما سبب هذا الحلم الذي كثيرا ما يتحول إلى كابوس على متن قوارب الموت، ويصير هروبا من الموت نحو الموت؟

الطاهر بن جلون: كان المغرب ولا يزال أول بلد يقاسي هذه الظاهرة بشكل يومي [يشير إلى البحر]. لأجل ذلك، على كل الدول المعنية بموجات الهجرة والنزوح أن تتحمل مسؤوليتها لوقف هذا النزيف. ولا بد من حل جذري ونهائي للظاهرة. ولي اليقين في أنه لا أحد يمكن أن يكون سعيدا في المهجر، مهما تكن المغريات.

اليوم لم تعد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة الهجرة أسبابا اقتصادية فحسب، بل صارت ثمة أبعاد سياسية، خاصة مع تراجيديات اللاجئين النازحين من سوريا وباقي الدول العربية في عرض البحر المتوسط. وللولايات المتحدة الأميركية مسؤولية راسخة، ما دامت هي المسؤولة عن تخريب العراق، حين قامت بتدمير هذا البلد شعبا وحضارة وذاكرة، ووفرت الشروط الجهنمية لنمو الإرهاب وقيام ما يسمى “دولة إسلامية”، لم تكن إلا نتيجة للسياسة الأميركية الإجرامية في العراق في بداية الألفية الحالية. لذلك، ما زلت أطالب، من زمان، بضرورة محاكمة الرئيس الأميركي جورج بوش محاكمة جنائية عالمية، على غرار محاكمة الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، لأنه أباد الشعب العراقي، بناء على أسباب مغرضة، واتهامات كاذبة، وادعاءات واهية، دون العودة إلى الأمم المتحدة وقراراتها.

السجن والذاكرة:

الجديد: بعد نصف قرن على اعتقالك سنة 1966، إثر مظاهرة طلابية في الدار البيضاء، أصدرت مؤخرا محكيات بعنوان “العقاب” La punition. لماذا انتظرت كل هذا الوقت لتدون تجربتك السجنية، وإن كنت كتبت من قبل رواية في أدب السجون بعنوان “تلك العتمة الباهرة” Cette aveuglante absence de lumière عن سجن تازمامارت. وثمة فصل صريح في روايتك “الكاتب العمومي” عن تجربة الاعتقال؟ كيف استطعت الاحتفاظ بآلام تلك المرحلة وتفاصيل هذه التجربة إلى اليوم؟

الطاهر بن جلون: مبدئيا، لم تكن هنالك خطة لكي أحكي هذه الفترة العصية والتجربة الحدية من حياتي؛ مرحلة تعرضت فيها لعنف وتعسف وتعذيب، لأن الدولة كانت خائفة يومها من كل المطالب وكل الحركات الاحتجاجية. نتحدث هنا عما يعرف بسنوات الرصاص في المغرب. كنا نظمنا تظاهرات في مدينة الدار البيضاء احتجاجا على أوضاع التعليم في البلاد، فتعرضنا لعنف دموي، وتم اعتقالي إلى جانب مجموعة من الطلبة، بحكم انتمائنا إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وجرى اعتقالي بدعوى أنني العقل المدبر لتلك المظاهرات السلمية.

بالنسبة إلي شخصيا، كثيرا ما اتهمت من قبل البعض بأنني كنت مساندا لنظام الحسن الثاني، وكانوا يزعمون يومها أنني مقرب من القصر. وهذا كله إنما كان كذبا وبهتانا كبيرا، بينما بقيت أتعالى عن هذه الاتهامات المغرضة والدنيئة، ولم أرد أن أثبت لأحد أنني كنت مناضلا معارضا للنظام، لأنني أثق في نفسي ولا أزايد بأية تضحية من أجل بلدي. الآن، جاء الوقت لكي أحكي هذه القصة، لأنها قصة مهمة من تاريخ المغرب. ذلك لأن الجيوش الضباط الذين عذبونا في الثكنة العسكرية “هرمومو”، واعتقلونا هنالك، هم أنفسهم الضباط الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام المغربي سنة 1971، المعروف بانقلاب الصخيرات. لقد تعرضنا لمختلف أشكال التعذيب والإهانة والمس بالكرامة على أيدي هؤلاء، فقط لأننا كنا طلبة نطالب بتعميم التعليم على المغاربة، وننادي بالعيش الكريم. تصوروا معي لو نجح الانقلاب وحكم هؤلاء المغرب، يقينا كانوا سيقضون على البلاد بشكل نهائي، لأنهم كانوا عسكريين فاشستيين ومرتزقة.

الجديد: كذلك، أمكن القول إن رواية الطاهر بن جلون هي رواية الذاكرة. وأنت تشير إلى هذا في مقدمة روايتك “ليلة القدر” La Nuit Sacrée. وفي رواية “في البلد” au pays، وأعمال أخرى، حيث لا يحتاج الكاتب إلى خيال فقط، بل لا بد من ذاكرة قوية لكي يكتب؟

الطاهر بن جلون: نعم، لنقل إن الكتابة تحتاج إلى واقع وخيال معا. وإذا نحن حكينا الواقع من دون خيال فسيبدو كلاما بسيطا ومباشرا، عبارة عن تقرير بوليسي فقط. لكن، عندما تأخذ واقعا يوميا وتدمجه في لعبة الخيال يمكن أن تمس القارئ مباشرة وأن تثيره أكثر مما يثيره الواقع.

للرواية قدرة على معرفة روح الشعوب، وإذا أنت أردت أن تتعرف إلى روح المجتمع المصري ما عليك إلا أن تقرأ نجيب محفوظ، وإن أردت أن تقوم بزيارة إلى كولومبيا، أمكن لك أن تجعل من روايات غابرييل غارسيا ماركيز أفضل دليل سياحي. صحيح أن الكاتب شاهد على الواقع، غير أن خيال الكاتب هو الذي يمنح هذه الشهادة صدقها الإنساني وعمقها الفني. إن حياتنا محكومة بالنقص دائما، والخيال هو من يملأ تلك الفراغات. كما أن ذاكرتنا لا تسعفنا في استعادة كل شيء، فلا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. كما أن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي، أو سوريالي، على الأصح.

لا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. كما أن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي..

ونحن المغاربة، مثلا، لنا خيال ثر، ونمتلك قدرة خارقة وفائقة على تأويل الأشياء. فإذا ما وقع حدث معين تجد كل واحد منا يقدم روايته الخاصة، ويضفي عليها مسحة من الغرائبية، ويضيف إلى الحدث تفاصيل كثيرة لا منتهى لها. وحين أقف في ساحة جامع الفنا بمراكش، مثلا، أصاب بالدهشة وأنا أنصت للحكواتيين وهم يسردون حكايات من ألف ليلة وليلة، فيضيفون إليها ما لا يخطر على بال أحد، ويختلقون حكايات جديدة لا وجود لها.

الجديد: بخصوص الذاكرة، فاس التي ولدت فيها حاضرة في الكثير من رواياتك، ثم طنجة، التي عشت فيها، قبل الوصول إلى فرنسا. في “الكاتب العمومي” و”حول أمي”، وروايات أخرى… يبدو أن هنالك أعمالا أدبية للطاهر بن جلون وغيره من كتاب العالم تجعلنا نقول بأن الرواية ما هي إلا اختراع اختلقه الكُتاب من أجل إيهامنا بأنهم لا يتحدثون عن سيرهم وتجاربهم الإنسانية ومدنهم وطفولتهم؟

الطاهر بن جلون: ومع ذلك، فإن الكاتب الذي لا يتحدث إلا عن نفسه هو كاتب فقير. ومن يكون هذا الكاتب الذي يحق له أن يحدثنا عن نفسه ويحكي لنا حكايته الشخصية! لنأخذ كاتبا مثل خوان غويتصولو، هذا المبدع الإسباني والإنساني الكبير الذي عاش بين المغاربة ودفن بينهم… فهو في روايته “المقبرة”، كما في روايات أخريات، لا يكتب عن نفسه قَدْرَ ما يكتب عن العالم الإسلامي الذي عاش فيه وأثر في حياته. لنقل إن الكاتب لا يحكي عن الحياة التي عاشها بقدر ما يحكي عن تأثره بهذه الحياة. من هنا، وجوابا على سؤالك المتعب [يضحك]، أمكن القول إن العالم الذي نعيش فيه يؤثر في ما نكتبه. ولو كنت أعيش في الصين أو اليابان لكنت تأثرت حتما بواقع الحال والأشياء هنالك.

صحيح أن الكاتب يستعير من حياته ومن الوقائع التي عاشها، والأحداث التي واجهها… سوى أنه لا يمكن أن يحكي حياته كما هي. لنأخذ كافكا على سبيل المثال، فروايات هذا الكاتب العظيم محض خيال، بل هي أعمال مفرطة في الخيال المجنح إن صح التعبير. لكننا حين نقرأ يومياته نجدها تتقاطع مع رواياته وسردياته التخييلية، المستمدة من اليأس ومن الإحباط الذي ظل يسكنه.

ولنستحضر محمود درويش في هذا المقام؛ هو شاعر عظيم، ليس لأنه فلسطيني، فتلك هويته. ولكن شعره تحدى هذه الهوية وتجاوزها. فلو أنه توقف عند حدود النكبة، وآلام القضية الفلسطينية لظل شاعرا محليا. لكنه صار كونيا، وواحدا من أهم شعراء القرن العشرين. ولا يمكن الخلط بين هويته كفلسطيني وبين قدرته الهائلة كشاعر. غير أنه لولا مأساة فلسطين لما كان محمود درويش شاعرا عظيما. وأتذكر هنا قولة جان جنيه “وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى”. والكاتب الذي يبدع في عالم مثالي وجميل لا يمكن أن يقدم لنا عملا جميلا. صحيح أنا لسنا مع البؤس، غير أن المعاناة ضرورية ليكون ثمة شاعر أو كاتب مهم.

وعن سؤالك، دائما، دعنا نقلْ: ليس الكاتب الحقيقي هو الذي يكتب عن الحياة، بل ذلك الذي تكتب الحياة بيده.

الجديد: في رواية “الاستئصال” L’ablation، تحكي حياة الآخرين، لتذكرنا بأنك إنما تقوم هنا بمهمة الكاتب العمومي، كما تشدد على ذلك في مطلع “ليلة القدر” وفي الرواية التي تحمل الاسم نفسه “الكاتب العمومي”. كاتب عمومي نعم، ولكن من غير أن تظل وفيا لهذه المهنة، إذ لا بد من خيال وجمال لكتابة حياة من لا يستطيعون الكتابة. هل مهمة المبدع والروائي، تحديدا، هي أن يكون كاتبا عموميا، بهذا المعنى الأدبي؟

الطاهر بن جلون: حين تتحدث عن رواية “الاستئصال” فإنك تستحضر معي عملا روائيا وإنسانيا أعتز به أيما اعتزاز؛ فهذه الرواية شهادة أدبية إنسانية حول سرطان البروستاتا، هذا المرض الذي يموت به أصحابه دون أن يستطيعوا الحديث عنه. ولعل هذا الصمت هو الذي يقتلهم أكثر مما يقتلهم السرطان نفسه؛ فلقد أصبح من الممكن علاج هذا المرض بكل سهولة، أحيانا، لكن الخوف من هذا المرض هو الذي يقضي على ضحاياه، ممن يلتزمون الصمت ولا يخبرون أحدا بآلامهم، بما في ذلك زوجاتهم وأولادهم.

وفي الوقت الذي تلتزم فيه الصحافة الصمت، هي الأخرى، تجاه هذا المرض العضال، وقلما نعثر على تذكير به في التلفزيون، جاء هذا الكتاب ليصبح رمزا لفضح هذا الصمت الشامل والمطبق تجاه المرض الفتاك. لا يغدو المريض هاهنا ضحية لمرضه، بل ضحية للقدر. وأنا ما زلت أعتبر الكتابة معركة ضد القدر؛ فالحياة ليست قدرا مكتوبا ومقدرا علينا، بل الحياة هي التي نكتبها ونخترعها يوميا. بهذا المعنى، تغدو الحياة معركة. الحياة يا صاحبي لا يمكن أن تكون مجرد نزهة، بل هي آلام وصراعات وحروب، مثلما هي لحظات فرح وسلام وأمن أيضا.

المثقف العربي كائن مضطهد

الجديد: خلال السنوات العشر الأخيرة، أصدرت ثلاثة كتب يمكن أن نسميها “الشروحات”، وهي “شرح العنصرية لابنتي”، و”الإسلام كما نشرحه لأبنائنا”، و”الإرهاب كما نشرحه لأبنائنا”. لنبدأ بكتاب “الإسلام كما نشرحه لأبنائنا”. والإسلام هذا هو الذي بات يلتبس بالإرهاب وهو ضحية النظرة العنصرية أيضا؟ ما هو إسلام الطاهر بن جلون؟ هل هو إسلام ابن عربي “دين الحب”، أم إسلام ابن رشد العقلاني؟ أم هو إسلام الطاهر بن جلون، فقط، كما يمكن أن يكون إسلام زيد أو عمرو، بمعنى أنه شأن فردي؟

الطاهر بن جلون: الإسلام تجربة روحانية قبل كل شيء. وحينما نقرأ ابن عربي وغيره من المتصوفة، أو الحلاج مثلا، نجدهم يقدمون هذا العمق الروحي للإسلام في قصائد شعرية راقية جدا. وما من متصوف عظيم لم يكتب شعرا عظيما. وهذا هو الإسلام الذي نريد، إسلام الشعر وإسلام الروحانية. أما إسلام المشعوذين فعلينا أن نتركه جانبا، وأن لا نثق في هؤلاء الذين يجعلون من الدين مطية للوصول إلى الحكم من أجل استعباد الناس. لأجل ذلك، وجب علينا أن نحترم هذا الدين، وألّا نستغله من أجل الوصول إلى الحكم عن طريق الكذب على الشعب. ومتى احترمنا الدين أمكن أن نعيش في سلام.

الجديد: ولكن، كيف يمكن أن نقنع الغرب بوجود إسلام على هذا القدر من النبل والجمال، والحال أن الهجمات والعمليات الإرهابية باتت تشكك في وجود إسلام متسامح؛ هنا ننتقل إلى كتاب “الإرهاب كما نشرحه لأبنائنا”. إذا لم يكن الإسلام إرهابا، فما هو مصدر هذا الإرهاب؟

الطاهر بن جلون: أتذكر كم كان إسلام والديَّ وأجدادي جميلا وهادئا ومسالما. والآن، هنالك من جعل من الدين أيديولوجيا حرب. لعل هذا هو السبب الذي جعل الغرب ينظر إلى الإسلام باعتباره خطرا وأيديولوجيا إرهابية. والمشعوذون والمرتزقة هم الذين تلاعبوا بالإسلام وشوهوا صورته، حتى بات من الصعب أن نعود اليوم إلى إسلام مسالم، وباتت أميركا تحارب كل ما له علاقة بالإسلام، سواء أكان صحيحا أم خاطئا. وهذا هو صدام الجهالات الذي لطالما حذرت منه، إذ لا بد من استئناف حوار جديد بيننا وبين الآخرين، لضمان التواصل والتعايش بين الأجيال المقبلة في الغرب والعالم الإسلامي، عبر تجاوز حالة الجهل المتبادل.

الجديد: قلت لابنتك في تلك المحاورة “السقراطية” إن الحل لمواجهة الإرهاب إنما يكمن في التربية. إذا كنا نعرف أن التعليم منحط في الدول العربية، أفلا يمكن القول إن ذلك مقصود من قبل الأنظمة حتى لا يتحقق ويتخلق وعي داخل مجتمعاتنا؟

الطاهر بن جلون: سواء تعلق الأمر بالعنصرية أم بالإرهاب، فإن التربية هي الحل دائما. وعلينا أن نشرح للأجيال المقبلة أسباب صعود الإرهاب، والسياق التاريخي الذي تمخض عنه، مثلما وجب أن نفرق بين الإرهاب والمقاومة؛ فإسرائيل -ومعها الولايات المتحدة الأميركية- استطاعت إقبار القضية الفلسطينية بالكثير من الوسائل، ومن بينها تسمية المقاومة إرهابا.

وحين نتحدث عن التربية سبيلا إلى القضاء على الإرهاب وجب أن نعلن عن مراجعة شاملة للمقررات الدراسية، وأن نربي أبناءنا على قيم التسامح ونبذ التعصب والكراهية، وأن ندرس تاريخ الأديان الثلاثة وفضائل هذه الديانات ومبادئها الكونية…

الجديد: نصل الآن إلى الكتاب الأول من ثلاثية “الشروحات”، وهو كتاب “شرح العنصرية لابنتي”. أنت الذي تعيش الحياة اليومية في فرنسا، ألا ترى أن الإرهاب يغذي العنصرية بقدر ما تغذي العنصرية الإرهاب أيضا؟

الطاهر بن جلون: بكل تأكيد؛ فعندما يتم ربط الإرهاب بالإسلام يغدو كل مسلم إرهابيا في نظر الغرب. وأول المتضررين من هذا التمثل الخاطئ هم أبناء الجاليات المسلمة في أوروبا وغيرها. صحيح أن هنالك إسلاميين قاموا بأعمال إرهابية غير مقبولة ولا تغتفر، إلا أن هذه الأفعال الشنيعة لا ينبغي أن تنسحب على جميع المسلمين. ومع ذلك ما زلنا نتابع سلوكات وأعمالا غير مقبولة ومستفزة تسيء لصورة الإسلام في أوروبا، ومن ذلك إصرار البعض على قطع الطريق العام لأداء صلاة الجمعة. بينما لا يمكن أن نقبل نحن في مدينة الدار البيضاء بطائفة يهودية أو مسيحية تؤدي صلاتها في الفضاء العمومي… ثم هنالك هذا اللباس الأفغاني الدخيل والغريب عن الإسلام والمسلمين، والذي يسيء إلى صورة المسلمين في أوروبا، ويسيء إلى المرأة، لأنه يعبر عن حالة تمييز صارخة بين الجنسين، حين يُكفن جسد المرأة في ثوب أسود، ويكاد يمنعها من التنفس والحياة.

المرأة والإسلام:

الجديد: في مقال نشرته في جريدة “لافانغوارديا” قبل 15 سنة، قلت إن المرأة هي مستقبل الإسلام؛ أي أنك تقيس تطور الإسلام بتطور نظرته إلى المرأة ومعاملته لها. أليس كذلك أستاذ الطاهر بن جلون؟

الطاهر بن جلون: نعم، المرأة هي مستقبل الرجل، وهي مستقبل الإسلام، ومتى تغيرت أوضاع المرأة في العالم الإسلامي تغيرت النظرة إلى الإسلام، وحظي بالاحترام حينها.

للأسف، ما زلنا نحن العرب لا نحترم المرأة بما هي إنسان وشخصية. وما زال أغلب المسلمين يمانعون في عرض المرأة على طبيب أخصائي من أجل العلاج، إلى غير ذلك من المظاهر التي نحتقر فيها المرأة وننظر إليها على أنها متاع ومحض موضوع جنسي، لنغدو نحن أنفسنا موضوع احتقار وازدراء من قبل الآخرين.

صدام الجهالات:

الجديد: سبق أن قلت إن على أوروبا، إن هي أرادت الانتصار على الإرهاب، أن تعتني بالمسلمين الموجودين فوق ترابها. أليست مهمة صعبة؟

الطاهر بن جلون: وأكثر من ذلك، يمكن القول إن الجالية المسلمة في أوروبا لم يُعترف بها إلى حد الآن، حتى يكون هنالك اهتمام جدي بأوضاعها. وهي مسؤولية أوروبا أولا، مثلما هي مسؤولية المسلمين أنفسهم. فاليهود المقيمون في فرنسا منظمون بشكل كبير. ولهم ممثلهم الخاص الذي يمثلهم، وهو المتحدث باسمهم والناطق بمطالبهم، بينما المسلمون غير منظمين على الإطلاق؛ لأن هذا له إسلام تركي وآخر له إسلام مغربي أو سنغالي، وليس لهم ممثل واحد يتحدث باسمهم أمام المسؤولين، وهذا هو أصل المشكلة. فلا يعقل أن يتواجد في فرنسا ما بين 5 إلى 6 ملايين مسلم، دون أن يكونوا منظمين، في مقابل 600 ألف يهودي ينتظمون في إطار واحد يسهر على ضمان مصالحهم وتحقيق مطالبهم.

الجالية المسلمة في أوروبا لم يُعترف بها إلى حد الآن، حتى يكون هنالك اهتمام جدي بأوضاعها. وهي مسؤولية أوروبا أولا، مثلما هي مسؤولية المسلمين أنفسهم. فاليهود المقيمون في فرنسا منظمون بشكل كبير. ولهم ممثلهم الخاص الذي يمثلهم

المشكلة هي أننا نفتقد إلى ثقافة التضامن، وهذه هي المأساة: ألّا نتحد ولا نتضامن. وسيأتي وقت يصير فيه هذا العالم العربي منحطا إلى أقصى درجة، ومشتتا بشكل مريع وفظيع. والمؤسف هو أننا لا نستحق ما هو أفضل، بعدما بلغنا درجة عالية من الانحطاط.

على الضفة الأخرى، من واجب الغرب أن يتحمل مسؤوليته هو الآخر، وأن ينفتح على المسلمين، وأن يتشرب تاريخ الإسلام وحضارته المضيئة، وألا يجعل، هو الآخر، من الإسلام دينا للعن، وهو منه براء.

الجديد: مرة قلت إن المطلوب ليس تغيير الإسلام بل تغيير المسلمين. أليست مهمة صعبة أيضا؟

الطاهر بن جلون: طبعا، لأنه لا مجال لتغيير النصوص. وعليه، لا بد من حث الناس على القيام بقراءة جديدة وذكية وعقلانية للنصوص الدينية. فنحن نعيش زمنا عقلانيا، ولا يمكن أن نستمر في تقديم فهم تافه للدين. فهنالك أشياء لم تعد صالحة اليوم، وعلينا أن نعيد النظر في بعض القراءات من أجل مواجهة العالم الجديد الذي نعيش فيه.

الجديد: في فرنسا، التي تعيش فيها، وتكتب بلغتها، يلاحظ أن هذه الدولة تتعامل بمنطق الإدماج، حيث تحرص على إدماج المهاجرين ومحاولة تذويبهم داخل المجتمع الفرنسي، ولا تترك لهم حق الاحتفاظ بملامح هويتهم وثقافتهم، على غرار المقاربة الألمانية، وهو ما أدى إلى رفض مظاهر الحجاب في المؤسسات التعليمية، مثلا، ما يُوَلِّدُ نوعا من الاحتقان والعنف ورفض الآخر؟

الطاهر بن جلون: أظن أن سياسة الإدماج لم تنجح في فرنسا لأن المهاجر الذي يأتي من الخارج لا حاجة له في الاندماج أصلا، وهو يعتبر نفسه عابرا فقط. أما أبناؤه فهم ليسوا مهاجرين بل أوروبيون، وإن لم يُعترف بهم كأوروبيين بنسبة مئة في المئة. هكذا وصلنا إلى حالة عدم الاعتراف بالجيل الثاني والثالث من المهاجرين بما هم فرنسيون مثل غيرهم. وحالة عدم الاعتراف هذه هي من بين أسباب الاحتقان.

وحين تتعامل الشرطة بعنصرية مع المهاجر المسلم، وحين تنظر إليه على أنه مواطن من الدرجة الثانية، فإن كل ذلك يولد كراهية ونظرة عدائية دفعت الشباب المسلم إلى الانعزال على هامش المجتمع الفرنسي، ودفعت بعض الشباب إلى الالتحاق بمعسكرات الجهاد في سوريا والعراق، أو انتهت ببعضهم الآخر إلى الضلوع في تفجيرات إرهابية في قلب أوروبا. وتؤكد الإحصائيات أن ما يناهز 1500 من الشباب المغاربة التحقوا بمعسكرات داعش في سوريا والعراق، وبقي هنالك آخرون يشبهون قنبلة موقوتة تريد أن تنفجر.

العرب وفلسطين:

الجديد: قلت، مؤخرا، إنه لم يعد هنالك وجود لعالم عربي. كيف، وأين اختفى؟ وما علاقة كلامك بما جرى ويجري في سوريا والعراق واليمن؟

الطاهر بن جلون: ينبغي أن نتحدث هنا بكل موضوعية، بعيدا عن عاطفة الانتماء؛ فلا بد من وجود ملموس لهذا الذي نسميه عالما عربيا، ولا بد من الإحساس به. والحال أنه ليس هنالك من تضامن عربي على جميع المستويات، ولا أثر لقوة عربية متحدة، كما لا نعثر على أي مبادلات اقتصادية عربية قوية… فلماذا نتحدث عن وجود عالم عربي، وبأي معنى نزعم ذلك؟

هنالك دليل ساطع على ما أقول، يتمثل في القضية الفلسطينية التي صارت مهملة ونسيا منسيا؛ لقد تم إقبار القضية الفلسطينية بشكل رهيب، وأصبح في إمكان إسرائيل أن تفعل ما تشاء بالشعب الفلسطيني والأراضي الفلسطينية، وأن تعلن القدس عاصمة لها، بمساندة ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، التي تقدم لها دعما غير مشروط. هكذا، صار الشعب الفلسطيني يُقَتَّلُ من غير أن تقوم أية ضجة في العالم. ولم يعد أحد يقوى على إدانة إسرائيل واستنكار ممارساتها، وصارت إسرائيل أقوى دولة في العالم. هذه الدولة الاستيطانية التي أغلقت كل أبواب المفاوضات وأخرست كل الأفواه. وبينما كنا نسمع أصوات المثقفين العرب ترتفع لتجهر بإدانة السياسة الإسرائيلية، لم نعد نسمع الآن صدى لأي صوت.

المثقف والسياسة:

الجديد: بسبب الرداءة القصوى التي وصلت إليها الممارسة السياسية عندنا، هجر المثقفون السياسة، وأعرضوا عن متابعتها متابعة نقدية، فخلت الساحة لتجار السياسة ومرتزقتها، كما يقول البعض. أليست هذه مفارقة يقع فيها مثقف اليوم أمام ما يجري من أحداث ودماء، وما يقع من تصدعات وانهيارات كبرى؟

الطاهر بن جلون: المثقف العربي كائن مضطهد في الكثير من الدول العربية، في العراق وسوريا ومصر… وهذا المثقف حين يصطف في خندق المعارضة، ولو كانت سلمية، يُلقى به في غياهب السجون أو يدفع دفعا للإقامة في المنافي. فلا تزال أنظمتنا السياسية تهاب الحرية، وتخاف من الفكر والوعي، ولا يزال يُنظر إلى المثقف على أنه عدو للنظام القائم.

والحال أنه لم يعد في مقدورنا أن نمارس الرقابة على الأفراد والجماعات في زمن التواصل الرقمي، حيث الأخبار مطروحة في الطريق، وحيث يمكن الوصول إلى المعلومة في ظرف قياسي، ولا مجال لإخفائها أو حظرها.

نلاحظ اليوم وجود مجموعة من المثقفين الذين استقروا في بلدان أوروبية، في ألمانيا وإنكلترا وهولندا وفرنسا، وهم يجهرون بمواقفهم ويعبرون بكل حرية. وفي العالم العربي، تقام حملات ضد بعضهم، ويتهمون بأنهم خونة، وإذا ظلوا في بلدانهم العربية فهم مضطهدون ومقموعون. والكثير من المثقفين الذين شاركوا في ميادين التحرير العربية يقبعون الآن في السجون، ولا أحد يتحدث عنهم. والوضعية نفسها يعيشها مثقفون في تركيا، حيث يتعرض معارضو النظام الدكتاتوري للقمع، وهو النظام الذي يوظف الدين لاضطهاد معارضيه.

الربيع العربي:

الجديد: في العالم العربي أيضا، أو بين أنقاضه على الأصح، هنالك كتابات واكبت الثورات العربية الجديدة. هل يمكن الحديث عن أدب الربيع العربي، وأنت الذي ألفت كتابين عن هذه المرحلة الدامية من تاريخنا المعاصر؟

الطاهر بن جلون: الربيع العربي لم يقل كلمته بعد، لأن المأساة الأكبر هي مأساة سوريا، حيث يقوم دكتاتور مجنون بقتل شعبه وتدمير بلده. لهذا، ينبغي أن يُحاكم بشار الأسد أكثر من مرة، لأنه من أكبر المجرمين في العالم العربي. وقد تجاوز ما قام به والده في مجزرة حماه. وأطالب بأن يحاكم بشار من قبل الشعب السوري، الذي ذهب ضحية هذا المجرم الكبير، مثلما أطالب بمحاكمة غيره من المجرمين، كما طالبت من قبل بمحاكمة جورج بوش، الذي شن حربا قاتلة على الشعب العراقي دون موجب حق، وهي الحرب التي مهدت لكل هذا الدمار والخراب الشامل الذي نعيش تحت أنقاضه كما قلت. أما ما كُتب وسيكتب عن الربيع العربي من نصوص روائية وشعرية وفكرية، وأعمال سينمائية وفنية، فسيبقى شهادة أدبية مريرة من شأنها أن تغني وتثري الأدب العالمي.

الربيع العربي لم يقل كلمته إذن، ولا يمكن أن ينتهي ما دام ثورة شعبية عارمة، لم يقدها إسلاميون ولا غيرهم. إنها ثورة غير أيديولوجية، وانتفاضة عربية ضد الفساد والاستبداد، أكدت لنا أن الإنسان العربي لم يعد يقبل بأن يكون خانعا خاضعا لسلطة الدكتاتور، بعدما اكتشف صوته الحقيقي واكتشف حريته في ميادين التحرير العربية.

كلمة أخيرة:

الجديد: في المغرب والعالم العربي، أنت كاتب فرنكوفوني، يكتب بالفرنسية. وفي فرنسا، أنت كاتب عربي مغربي، وإن كتبت بلغة الفرنسيين. كيف يحيا الطاهر بن جلون هذه المفارقة؟

الطاهر بن جلون: أعتبر نفسي كاتبا فقط. ولا أعير أية أهمية للغة التي يكتب بها الكاتب. وإذا كانت أعمالي قد ترجمت إلى 47 لغة، فلا فرق بين أن أكون كاتبا بالعربية أو الصينية أو الفرنسية، فهذا أمر ليست له أهمية كبيرة. المهم في نظري هو ماذا تكتب؟ وهل تمتع الناس؟ وهل تقنعهم بالحق في الحلم والأمل والحياة؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

عن مجلة الجديد اللندنية

صدور رواية “هذا الرّطيب”للمغربي محمّد مباركي

$
0
0

بعد الجزء الأوّل «مُهجة» والجزء الثّاني «شروق شمسين» أصدر الرّوائي المغربي «محمّد مباركي» الجزء الثّالث من ثلاثيته «هذا الرّطيب» عن «مكتبة سلمى بتطوان». تتكوّن الرّواية من 50 فصلا و448 صفحة من الحجم المتوسط. تزيّن الغلاف لوحة الرّسّام العالمي «محمد سعود». كتب في خلفية غلافها «الهايكيست» د. «سامح درويش»:

«هذا الرّطيب».. هذه الرواية اللعوب.. هذا التخييل المتسرب من شقوق التاريخ الإنساني القريب، هذا السرد الرشيق الذي يخب بقارئه عبر أكثر من ألف ومائتي صفحة وراء طعم شهي في شص الحكي يظهر تارة في شكل امرأة تسمى “مهجة الأمهاج”، وتارة في شكل شخوص تتناوب على إفراز هرمون المتعة.

«هذا الرّطيب»، هي الحلقة الثالثة من ثلاثية الروائي المغربي محمد مباركي.. والرواية هي نقطة الحسم في مصائر شخوص من علكة السرد استدعتها الوقائع والأحداث التي تناولت ظاهرة الاسترقاق ببلاد الأندلس، عبر تقنية سردية توسلت طمس هويات الشخوص كحد فاصل بين الحرية والاستعباد.. «هذا الرّطيب».. إنه معمار روائي قائم على ثنائية الحرية واللذة عبر محاولات مريرة لطمس هذه الثنائية نفسها من خلال مناجزة قيمة الحرية بواسطة وطأة الاسترقاق، وتناول مفهوم اللذة بواسطة أكسسوارات الآلام والمحن المتناسلة.. «هذا الرّطيب».. هذا السفر الروائي الممتع.


“أتيلا آخر العشاق”للكردي العراقي سردار عبدالله.. عن التعايش والصراع القوميين

$
0
0

صدرت عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، رواية “أتيلا آخر العشاق” للكاتب والسياسي الكردي سردار عبدالله. تحكي الرواية التي تقع في 486 صفحة من الحجم المتوسط، سيرة الثورة الكردية، وتعالج الصراعات الاجتماعية والطائفية والقومية، والتعايش القومي الذي يتوج باستشهاد مقاتل عربي في صفوف الثورة الكردية.

إنها رواية المؤمن العالق بوادي الحيرة الذي يذكره الصوفي فريد الدين العطار، فتشكل كأس الخمر، الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، لتستمر معاناة القارئ لمعرفة مصيرها حتى نهاية الرواية، كما عانت الطير حين عبرت الوديان السبعة.

يستهل (آتيلا) السرد في ليلته الأخيرة، متحديا الله بكأس خمر، فيقرر شربها حين يغضب ليكفر، ثم يستغفر فلا يشربها. وتستمر مكابدته بين شربه الخمر، وبين البقاء وفيا لتوبته التي تلقاها على يد حبيبته القروية (فاطمة)، التي سيقت مع عشرات الآلاف الى المقابر الجماعية.

يسرد (شاسوار) الفصول بالتوالي مع آتيلا، مستذكرا أحداثا من تاريخ العراق وكردستان، موفرا بذلك الخلفية السياسية للأحداث. ويلتقي مقاتل شيوعي عربي بشاسوار الذي يريد قتله، لكنهم يقضون ليلة صفاء خمرية عن الشعر والحديث عن الصوفي (فريد الدين العطار)، فيهيمُ آتيلا حتى يحصل على نسخة من (منطق الطير)، فتنزل فيه روح العطار. ويحرقه الشوق الى مزارات العشاق، ومعابد يصلي فيها متجاوزا خلافها مع دينه الإسلامي، ويزور مرقد العطار في مدينة نيسابور، فيقيم فيها ويتعلم العزف على آلة الطنبور. يشكل حضور العطار وكتابه، مجمل الفضاء الصوفي للرواية، التي تقتبس عشرات الحكايات من (منطق الطير).

إنها رواية وجع الكردي، وحملات ابادته وثوراته. سفر العشق الذي يختلط فيه عشق الانثى، بعشق الكأس، بعشق الثورة، بعشق الله الذي يغرس حب البشر وحب جميع كائناته. تختلط فيها الأسطورة بالواقع، من خلال حضور أنبياء وأولياء يلتقيهم في عروجه الأخير نحو السماء، في مشهد ينتهي باندماج روح آتيلا بروح فاطمة وبالذات الالهية كما حدث في نهاية رحلة الطير واكتشافها الذات الالهية في مرآة، ابدعها (فريد الدين العطار) في كتابه.

يطلق آدم (ع.س) لقب آخر العُشّاق على (آتيلا). فيستنتج (شاسوار): بأن لحظة الخلق هي لحظة عشق آدم لحواء، ويفند كالعطار دور العقل في فهم العشق. ويختم بالقول: اذا كان آدم أول العاشقين، فإن آتيلا هو آخر العشاق، فهل جاء يبشر بدين جديد؟

مقطع من الرواية

بينما يسيطر عليّ هذا القول المتكرّر ﴿ما تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت﴾، أتوهُ في لغز قطعة الأرض التي يُمكن أن يكون أبو سعد دُفن فيها. أين تقع؟ وهل تحمل شاهداً شامخاً كما يتمنّى جميع الناس، أم هو لم يحصل حتّى على ذلك؟ وما قيمة كلّ هذه الأمور أمام ردّ أبي سعد على آتيلا يومها حين خاطبه ممازحاً، بطريقة يملأها الودّ، تصاحبها ضحكةٌ رقيقة: «وهل يهمّ بأيّ أرضٍ نموت؟ نحن لم نترك ديارنا وأهلنا وحبيباتنا لكي نبحث عن قطعة الأرض التي نُدفنُ فيها… دع عنك كلّ حديث الآخرة هذا، وقل لي كيف تؤدّي صلاتك؟ هل هي على طريقة أبيك التركماني الشيعي أم على طريقة أمّك الكرديّة السنّية؟».

لم أرَ آتيلا مرتبكاً بهذا القدر من قبل. بعد شيء من التردّد، قال بارتباك يروم الحسم: «لا أعرف، فلم أرَ أبي يصلّي يوماً، ولم أُدقّق في صلاة أمّي وذلك لتيهي وانغماسي في الدنيا وملذّاتها. لكنّني الآن بعدما هداني الله وأعلنتُ توبتي أمام الشيخ فأنا والحمد لله مسلم أؤدي صلاتي على طريقة الإمام الشيخ كاكه حمه البرزنجي و…».

قاطعه أبو سعد بابتسامةٍ مشاكسة: «الإمام الشيخ كاكه حمه البرزنجي، أم… الإمامة الشيخة فاطمة البرزنجي؟».

وغرقنا نحن الثلاثة في ضحكة جميلة تتفجّر فرحاً وصدقاً يتجاوز كلّ الخطوط الحمر الإيديولوجية المرسومة بالدم والبارود.

عن الكاتب سردار عبد الله

كاتب وسياسي كردي ومرشّح سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلات وصحف كردية عديدة بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكردية. له إصدارات عديدة باللغتين الكردية والعربية. «آتيلا آخر العشّاق» روايته الأولى بالعربية.

كتابة الكلمات مثل تناول المرء للمخدّرات

$
0
0

يجب أن تكون الكتابة والتأمل عملين مجردين من الإرادة. ومثل تيار في محيط عميق الغور، يجب أن تطفو الكلمة إلى السطح عند أول خاطرة. فالطفل ليس بحاجة لأن يكتب، لأنه بريء.

فالمرء يكتب ليتخلص من السموم التي جمعها بسبب أسلوب حياته الزائف. إنه يحاول أن يسترد براءته، ومع ذلك فإن كل ما ينجح في عمله (بالكتابة) هو أن يلقح العالم بفيروس من خيبة أمله. لن يضع إنسان كلمة على الورق إذا كان يملك الشجاعة لأن يعيش ما يؤمن به. إن إلهامه ينحرف عن المصدر. وإذا كان يرغب في خلق عالم من الحقيقة والجمال والسحر، فلماذا يضع ملايين الكلمات بينه وبين حقيقة ذلك العالم؟ لماذا يؤجل العمل – ما لم تكن رغبته، شأن الرجال الآخرين، القوة والشهرة والنجاح. فقد قال بلزاك “الكتب هي فعل الإنسان في الموت”، ومع إدراك الحقيقة، يسلم الملاك إلى الشيطان الذي يمتلكه بإرادته.

الكاتب يتودد إلى جمهوره بتزلف كما يفعل أي سياسي أو أي نصاب آخر، إنه يحب أن يعزف على الوتر الحساس، أن يكتب وصفة كما يفعل الطبيب، أن يتبوأ مكانة لنفسه، أن يُعترف به كقوة، أن يحصل على الكأس المترعة بالتملق، حتى لو أرجئ ذلك ألف سنة. إنه لا يريد عالماً جديداً يمكن خلقه على الفور، لأنه يعرف أنه لن يناسبه على الإطلاق. إنه يريد عالماً مستحيلاً يكون فيه الحاكم دمية غير متوجة تهيمن عليه قوى خارج سيطرته تماماً. إنه يرضى بأن يحكم بشكل ماكر – في العالم الخيالي للرموز – لأن مجرد فكرة الاتصال بالحقائق الفجة والسمجة تثير فزعه. صحيح أنه يحيط بالحقيقة أكثر من الآخرين بكثير، لكنه لا يبذل جهداً في فرض تلك الحقيقة العليا على العالم بقوة المثال. بل يكتفي بأن يعظ فقط، أن يجتر عواقب الكوارث والنكبات، نبي ينعق دائماً بالموت بدون شرف، يرجمه دائماً، يجافيه دائماً أولئك الذين مهما كانوا غير مناسبين لمهماتهم، فإنهم مستعدون وراغبون في تنكب مسؤوليات عن قضايا العالم. إن الكاتب العظيم حقاً لا يريد أن يكتب: يريد أن يكون العالم مكاناً يستطيع أن يعيش فيه حياة خيالية. أول كلمة مرتعشة يضعها على الورقة هي كلمة الملاك المجروح: الألم. إن عملية كتابة الكلمات مثل أن يتناول المرء مخدراً. يمتلئ المؤلف بأوهام العظمة عندما يرى أن الكتاب تحت يديه يكبر ويكبر”. أنا أيضاً فاتح – ربما كنت أعظم فاتح على وجه الأرض! إن يومي لآتٍ. سأستعبد العالم بسحر الكلمات… وإلى ما هنالك حتى الغثيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رواية “صبوات” (Sexus) من ثلاثية الصلب الوردي لهنري ميللر
من صفحة المترجم جالد الجبيلي على الفيسبوك

صدور “ثلاثة أيام في كازابلانكا”للمغربي إسماعيل غزالي

$
0
0

صدرت رواية “ثلاثة أيام في كازابلانكا” للكاتب المغربي إسماعيل غزالي عن دار المتوسط – إيطاليا.

لعبة مصادفات شيطانيّة في مدينة ضارية وكابوسيّة. حافلة بالغرابة، تصخب فيها حوادث مبهمة وجرائم سوداء متعاقبة.

على مدار ثلاثة أيام تتشابك في حبكتها المعقّدة، مصائر تراجيدية داخل أمكنة موشومة: فندق لينكولن- غاليرهات أطلنتيك – حانة السفينة – ميدوزا للإنتاج – مستشفى حدائق آنفا المعلقة…إلخ

وغير ذلك، فهي تولي اهتماما خاصّا بالزّنوجة الإفريقية، المأساوية. فضلا عن كونها: “نسيج هادر” من روايات ومعمار وفنّ تشكيلي وموسيقى وأفلام سينمائيّة و…الخ

وجهٌ مظلم وعنيف من وجوه كازابلانكا ترسُمه هذه الرواية بطريقة مرعبة ولامألوفة.

“ثلاثة أيام في كازابلانكا” هي الرابعة في رصيد إسماعيل غزالي الروائي، إذ صدر له سابقا: – موسم صيد الزّنجور، رواية، 2013 ( القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2014). – النّهر يعضّ على ذيله، رواية، 2015. – عزلة الثلج، رواية 2018.

تعدّد الأبطال في “ابن السماء”لمصطفى لغتيري

$
0
0

إذا كان البطل حسب المتعارف عليه في ثقافتها العامة هو ذلك الكائن الذي يقوم بأعمال خارقة تتجاوز حدود باقي الناس، فإن مفهوم البطولة حسب ما سبق في رواية ” ابن السماء” لمصطفى لغتيري، لا ينسحب على بطل واحد بل نجده مرتبطا بشخصيات متعددة في الرواية.

تعتبر رواية ابن السماء الصادرة عام 2012 من الروايات التي أثارت جدلا في قراءتها، وذلك لملامستها مجموعة طابوهات كان من الصعب على الكاتب الاقتراب منها خاصة الدين والسياسة وما ارتبط بمعتقداتنا الدينية.

تحكي الرواية عن رجل توفي وصعدت روحه إلى السماء، لكن بقية الأموات في السماء ضاقوا ذرعا بتساؤلاته وبعض سلوكياته رغم طيبوبته، فتضرعوا إلى الله من أجل إنزاله إلى الأرض وهذا ما حصل ليجد البطل نفسه في قرية وسط أسرة من أختين وأب عجوز وبعد أن يتزوج البنت الكبرى ونظرا لالتزام ابن السماء الصمت الدائم تقرر الأختان استغلاله من خلال نشر إشاعة أنه ولي من أولياء الله الصالحين فتينيان له ضريحا تؤمه النسوة الراغبة في قضاء حاجاتهن، للتوسع التجارة وتبدأ زوجته في إهماله حتى يموت ويدفن هناك وتنشغل بشراء الأراضي والغوص في العلاقات المحرمة خاصة مع ضابط فرنسي الذي سيسهل لها كل أمورها. انطلاقا من هذا التلخيص للرواية سيتضح لنا جليا كيف انتقل لغتيري في روايته من بطل إلى آخر وسنعمل على رصد هؤلاء الأبطال وما مميزات كل واحد منهم.

إن البطل الأول الذي يصادفنا في رواية ابن السماء هو ابن السماء نفسه الذي اتخذت الرواية اسمه عنوانا لها، قدمه الكاتب على أنه شخصية صامتة على طول الرواية، نزل أو إن صح القول أنزل من السماء، هذا الفضاء الذي كان متعلقا به أيما تعلق، ” توغل الرجل القادم من السماء وسط الأشجار…كانت أشجارا قصيرة، يمكنه من خلالها أن يتطلع إلى موطنه الأصلي: السماء…” ص17

لكن الكاتب في الرواية حاول تقديم شخصية ابن السماء بشكل يصدم القارئ ويكسر أفق توقعه، فمن المفروض على أن يكون ابن السماء هذا شخصا ذكيا شجاعا، في حين نجده في الرواية عكس ذلك تماما، فنجده في مواقف متعددة على أنه ساذج سذاجة وصلت حد البله في بعض الأحيان ” حين ذلك نظر الرجل إلى السماء نظرة استعطاف حتى لا تخذله في مسعاه، ثم أغمض عينيه مستعدا لكي يتحول إلى غول بشع أو أي حيوان خرافي يمكنه أن يبث الذعر في قلوب المتحلقين حول البئر. أخذ يزمجر بصوت مرتفع، فلفت انتباه الجميع، لكن أي شيء لم يحدث” ص20.

هذا البطل الذي اتخذه الكاتب الشخصية المحورية في الرواية لم يكن يتصف بالسذاجة فقط وإنما بشيئ من الجبن والخوف ففي كثير من الأحيان لم يكن يصدر منه أي رد فعل اتجاه مهاجميه سواء باللفظ أو بالضرب ” ابتسم الرجل ابتسامة معبرة، ثم التفت نحو رفاقه، غمز إليهم بعينيه، ثم التفت نحو الرجل ودون سابق إنذار، هوى على خده بصفعة تردد صداها في المكان، لم تؤلمه الصفعة، وإنما أشعرته بالخزي…” ص 20.

نفس الموقف سنلحظه على ابن السماء حين يعترض سبيله جماعة من الرجال المسلحين، ” استفز هذا الجواب الرجل، فتعلق بالأتان، ثم ما لبث أن أمسك بخناق الرجل وسحبه نحو الأرض. هوى ابن السماء نحو الأسفل. ولكنه لم يدافع عن نفسه، فقط كان يردد وكأنه يحدث نفسه: الطريق طريق الله ” ص 53

لم يقتصر البطل على الصفات السابقة بل وصل الأمر إلى درجة استغلاله واستغلال سذاجته حين يتم بناء ضريح باسمه باعتباره وليا من أولياء الله الصالحين ” فرح الرجل ابن السماء بمهمته الجديدة، لقد صدق أنه يملك من الكرامات ما يعجز عن وصفه ” ص 61.
إلا أن هذه الكرامات قد تتحول من الشك إلى اليقين في بعض الأحيان خاصة حين أرادت لؤلؤة التخلص من زوجها ابن السماء فمنعت عنه الطعام حتى يموت فموته باعتباره ضريحا سيعود بالمال أكثر من حياته” مرت أيام وابن السماء لا يتلقى أي طعام، وكانت لؤلؤة تتفقده بين فترة وأخرى لكنها ترى رجلا لا يتأثر بما يحدث وكأنه لا يعنيه في شيء، شكت في أن أحدا ينقل إليه الطعام خلسة، فأقامت الحرس عليه، الذين مالبثوا أن أكدوا لها بأن لا أحد يقترب منه ومع ذلك فهو في صحة وعافية ” ص79.

لينتهي المطاف بابن السماء ميتا ويدفن في الضريح الذي يحمل اسمه “سيدي الساكت” وتعود روحه من جديد من حيث جاءت. من هنا يمكن اعتبار أن ابن السماء الذي اعتبر بطلا في الرواية، إنما كان بطلا من ورق تحركه أيادي من خلفه، يتم استغلاله والانتفاع على ظهره.

إلا أن الرواية لا تقف عند موت ابن السماء، بل يمكن اعتبار أنه بموته في الفصل السابع بدأت رواية جديدة في باقي الفصول، لكن بظهور رواية جديدة يظهر بطل جديد وهذه المرة لم يكن البطل سوى زوجة ابن السماء “لؤلؤة” التي كانت عكس زوجها، تماما لم تكن صامتة مثله أو تهاب وتخاف، ولم تكن ساذجة، بل وظفت خبثها وذكاءها وحتى جسدها لتصل لمبتغاها، ولعل أول مكر استعملته في الرواية كان مع ابن السماء نفسه لتوقعه في شركها وتتزوج منه ” لكنها في تلك الفترة بالذات أخذت تصرخ وتستغيث ثم عمدت إلى ملابسها أخذت تمزقها أمام ذهول الرجل. لم يمض غير وقت يسير حتى قدمت الأخت، التي ما إن رأت أختها على تلك الحال حتى طفقت تولول وتؤنب الرجل على فعلته الشنعاء “38.

لقد وظفت لؤلؤة كل سبل المكر والدهاء والذكاء لتصل إلى مبتغاها ” كانت المرأة قد فكرت في كل شيء، إذا كانت أمي قد أغوت رجال القرية وتلاعبت بهم، فقد جاء دور النساء،… كانت تحيك في ذهنها الذي لا يعوزه الذكاء والمكر تفاصيل الأمر الذي عزمت عليه.” 59.
اعتمدت لؤلؤة على نظرية “الإشاعة” خاصة بين النساء اللائي يتعلقن بأي خيط رفيع للنجاة، فتوهمهن أن زوجها الولي الصالح سيجد الحل لكل مشاكلهن وبالفعل هذا ما تأتى لها سريعا خاصة حينما وجدت آذانا صاغية لمكرها .إلا أ، لؤلؤة لجأت في بعض الفترات إلأى سلاح آخر للوصول حين وظفت جسدها خاصة مع الضابط الفرنسي الشاب الذي جعلته يتعلق بها بعدما كان الأمر شبه مستحيل نظرا للعلاقة المتوثرة بين المغاربة – وخاصة النساء – والمستعمر الفرنسي ” بين حين وآخر تدنو من الضابط حتى تلامسه بعجيزتها المكورة الجميلة، أفقدت هذه الحركة الرجل صوابه، فمد يده يتحسس جسدها الجميل، حين أحسن بأنها قد بلغت مرادها وأن الضابط قد وقع في مصيدتها دفعته بلطف ليجلس في مكانه، ثم ارتمت في حضنه.” 95.

لقد فرضت شخصية لؤلؤة نفسها بطلا في الرواية نافس بقوة شخصية ابن السبيل الذي عنونت الرواية باسمه كما قلنا، وذلك من خلال ما تميزت به هذه الشخصية وما استطاعت أن تفعله على طول الرواية جعل الأحداث في كل لحظة تأخذ منحى جديدا، بل لعل شخصية “لؤلؤة” قد حركت الأحداث أكثر مما حركها “ابن السبيل نفسه”.

الرواية نت

الموسيقى ومأساة الفرد في “مأزق تشايكوفسكي”لشوقي برنوصي

$
0
0

في كثير من الحالات يكون عنوان الرواية هوالمفتاح الرئيسي لفهمها…

نستهل هذا المراجعة لرواية مأزق تشايكوفسكي، وهي الأولى لكاتبها صدرت في تونس سنة 2018 عن دار سوتيميديا، بمحاولة سريعة للنفاذ إلى عالم الرواية انطلاقا من عنوانها، إذ يذكرنا هذا الأخير بتقليد أدبي اتبعه بعض الروائيين في اختيار عناوين أعمالهم، حيث تتضمن هذه العناوين أسماء لمشاهير ولأسماء علم من مختلف الميادين، أوشخصيات خيالية شهيرة، وهوخيار يُعتبر إلى حد ما ناجحا بالنظر إلى قدرة هذا النوع من العناوين على شد انتباه القرّاء واستثارة فضولهم وبالتالي سرعة انتشار هذه الأعمال والأرقام التي تحققها في السوق. وعلى سبيل المثال لا الحصر نستطيع ذكر رواية “قبلات نيتشه” للانس أولسن و”كافكا على الشاطئ” للياباني موراكامي، وثلاثية الروائي والمحلل النفسي الأمريكي إيرفين د.يالوم بعنوان “علاج شوبنهاور” و”عندما بكى نيتشه” و”مشكلة سبينوزا”، وفي الرواية العربية نذكر “دون كيشوت في الجزائر” لواسيني الأعرج، و”فرانكشتاين في بغداد” لأحمد السعداوي، والكثير غيرها.

في روايات د. يالوم، ينسج لنا الكاتب عالما متخيّلا عن شخوص يعانون من مشكلات اجتماعية أووجودية تجعلهم يبحثون عن توازنهم النفسي المفقود بشتى الطرق، حيث نجح الكاتب في إقحام تكوينه الفلسفي وخبرته الطويلة في مجال التحليل النفسي. ففي “علاج شوبنهاور” مثلا يقوم طبيب نفساني يدعى جوليوس هارتزفيلد بتقييم مسيرته المهنية الطويلة فيعثر على أحد مرضاه، “فيليب” وهوالذي استعان سابقا بحصصه العلاجية للشفاء من شبقه الجنسي المفرط، وهوما فشل الطبيب فيه، ونجح فيليب لاحقا في الشفاء منه بعد الاطلاع على موروث الفلسفة التشاؤمية ل”أرثر شوبنهاور. ولعل الكاتب في تلك الرواية ينتحل شخصية الطبيب “جوليوس”، من أجل أن يرغبنا نحن القراء، من خلال حبكة فنية روائية شيقة، في الإقبال على قراءة آثار شوبنهاور الطريفة والتي تعتبر مدرسة لجيل كبير من الفلاسفة والمفكرين اللاحقين ومن أهمهم نيتشه وفرويد وسيوران وغيرهم.

فهل يطمح الروائي التونسي الشاب شوقي برنوصي إلى التعريف بعبقري الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية بيوتر تشايكوفسكي من خلال عمله الروائي البكر هذا، أم أن لاختياره هذا العنوان أسباباً ودوافع أخرى؟ الإجابة نعرفها خلال رحلة قصيرة وشيّقة متكوّنة من 179 صفحة.

للعمل الروائي ثلاث أعمدة أوعناصر يتم من خلالها تناوله بالنقد والتقييم، هذه العناصر هي الموضوع (ماذا يقول العمل)، والأسلوب (كيف يقوله)، والواسطة أي اللغة. ففي أي واحد من هذه العناصر الثلاث سيكون بإمكاننا أن نسمع ونستشفّ نوتات موسيقى تشايكوفسكي، هل سيحضر المؤلف الموسيقي الأسطوري في مضمون الرواية، أم من خلال تركيبةٍ وأسلوبٍ ينهل من تقنيات التأليف الموسيقي، كما فعل ميلان كونديرا في معظم أعماله، أم ستكون موسيقية الرواية كامنة في شاعرية اللغة التي كتبت بها وغنائيتها؟

الموضوع:

تتناول الرواية أحد المواضيع الحساسة والراهنة في العالم العربي والعالم وهوموضوع المثلية الجنسية، بالإضافة إلى عدد من المواضيع الاجتماعية القديمة الجديدة الأخرى التي لا تقل أهميّة عن الثيمة الرئيسية، كالعلاقات الاجتماعية وهشاشة مؤسسة الزواج واستلاب الفرد واضطهاد القوانين الوضعية والدينية والعرفية له.

تقع معظم الأحداث، التي يتداول على روايتها البطلان مروان وزوجته فاطمة، في العاصمة تونس حيث تتشابك العلاقات والمصالح، كما تتسارع وتيرة الأيام لتفرز نمطا مجتمعيا وجوّا عامّا يختلط فيه الجمال بالرداءة والفضيلة بالفساد، ويظهر فيه الركض المضني والمتواصل وراء سعادة ضائعة وطهارة مغمورة بالدنس، أشبه بدحرجة سيزيف للحجر الذي لا يصل به إلى أي مكان.

مروان وفاطمة زوجان من الطبقة الوسطى المثقفة، التي ترزح أكثر من غيرها تحت وطأة هذا الوضع الهلامي للمجتمع التونسي ما بعد الثورة، الذي يتسم بالتشوّش والتيه واختلاط القيم وحتى انقلابها في كثير من الأحيان، ما أدّى بالمجتمع إلى الحياد عن المبادئ الكونية، وبالفرد إلى فقدان هويّته الشخصية ليصير خليطا هجينا ومتعفنا من كلّ شيء ولا شيء.

كل هذه الأفكار والتأملات التي أوردها الكاتب على لسان بطليه (سنتناول طريقة ورودها تلك في القسم المخصص للأسلوب) إنما تنمّ عن عمليّة بحث وتشخيص وتشريح للذات البشريّة في هذا المجتمع المنفجر حديثًا بدماء ديموغرافية وإيديولوجية لم يعهدها من قبل، يصعب معها التكهّن والتمييز بين ما هوبصدد إعادة تشكيل طينة الإنسان التونسي، وبين ما لا يتعدّى كونه نزوة وجوديّة سينتهي بها الأمر أن تتجاوزها الأحداث المتسارعة.

في مقابل شخصيّة مروان، هنالك شخصية زوجته فاطمة التي تجهل تماما أيّ شيء يتعلّق بميول زوجها المثليّة، كما لا تعلم كذلك أنّ زواجه منها لم يكن سوى بروتوكول قام بإبرامه مع نفسه في سبيل أن يكبح ميوله الشاذة ويحيط نفسه بفقاعة مؤسسة الزواج، ظانّا أن ذلك الحل الأنسب والأضمن لإخفاء مثليته عن المجتمع، وحتّى عن نفسه. من هذا المنطلق يتشكّل مأزق فاطمة الوجودي ، حيث تجد نفسها بين مطرقة حبها لزوجها وسندان الرّغبة في الإنجاب، وهوما يرفضه مروان بصفة قاطعة، رفضٌ يجعلها تعاني الأمرّين في البحث والتساؤل عن سبب ذلك الإصرار على حرمانها من إحساس الأمومة، قبل أن تعزم أخيرا على نيل ما تريده منتهجة في ذلك طرقا عديدة، بعضها مشروع والبعض الآخر لا يمت للأخلاق بصلة.

الأسلوب:

في هذه الرواية لعب الأسلوب الذي كتبت به الحكاية دورا جللا في إظهار الثيمات الكبرى للعمل، كما ساهم في توجيه القارئ والأخذ بيده إلى عمق مقاصد الرواية بطريقة سلسة ومدروسة.

تقع الرواية في 34 قسما يتناوب البطلان على روايتها، ثلث عددها لفاطمة وثلثان لمروان، وهوما أنتج إيقاعا داخليا شيّقا وخلق دافعا مستمرّا وغامضا للقارئ لإنهاء قراءة العمل في جلسة واحدة، وهي ميزة تذكرنا بانسيابية الأحداث عند أيقونات الرواية العربية مثل محفوظ وحنا مينة رغم أن هذه الأخيرة تصنّف ضمن المدرسة الواقعية البلزاكية.

أمّا روايتنا هذه، فعلى عكس المدارس التقليدية ،استخدم فيها الكاتب أساليب وتقنيات حديثة تُعتبر مفخّخة، لما فيها من مخاطرة جسيمة لإضاعة خيط الاسترسال وانسيابية الأحداث التي تضمنها الطريقة الكلاسيكية للقص، وقد نجح البرنوصي إلى حد كبير في هذه المعادلة.

من أهم التقنيات التي اعتمد عليها نذكر طريقة المونولوغ الداخلي للشخصيات وتيار الوعي، وهي تقنيات كان لا بد منها عند البطلين مروان وفاطمة من أجل نقل الكم الهائل من المشاعر والأفكار والتأملات المتزاحمة داخل ذهنيهما، وقدت ميّز الانتقال بين السّرد ومقاطع المونولوغ الداخلي بسلاسة ومنطقية تكاد تكون مثالية، كما يظهر لنا مثلا في بداية القسم الثالث من الرواية الذي عنوانه بحيرة البجع :

“تدفّق المسافرون إلى العربة. يرصّف بعضهم حقائبه استعدادا للجلوس، وكنت أرصّف حقيبة أفكاري. فكّرت في فيض شجاعة اجتاحتني ليلة البارحة. اتخذت قراري بسرعة. ما سأقدم عليه استثنائي. إنه يشبه انتقالا من بوب مارلي إلى الفيس بريسلي، من السينما الصامتة إلى أختها الناطقة … ”

من الأساليب الأخرى الطاغية في هذا العمل، نجد تقنية الفلاشباك، التي استعان بها الكاتب للعودة بالزمن إلى الوراء لتسليط الضوء والغوص في لحظات حاسمة من فترة الطفولة والمراهقة لدى الشخصيتين والتي ساهمت ربما في تشكيل نواة الأزمة الوجودية عندهما وما رسب منها في لاوعي كل منهما، فمثلا عندما يتحدث مروان عن أصل نفوره من التدخين ونفوره بالتالي من زوجته التي التصقت بها تلك العادة يقول متذكّرا:

“لم أدخن في حياتي قط وتقرفني رائحة السجائر. الابتعاد عن السيجارة عمل بطولي وإن كان أصل هذه البطولة خوف. نشأت قناعات كثيرة من خوف. الخوف قاطرة. مثل سيجارة تجرك شيئا فشيئا إلى المحرقة. أجهزت على رغبتي في التدخين في مهدها، خوفا من كفّ والدي الغليظة. كرهت السجائر، لكن ليس بسبب الخوف فقط.”

أما شخصية فاطمة فنجد قسما كاملا معنونا ب” إبنة الخامسة عشر” يسلط فيه الضوء على رواسب فترة المراهقة التي عاشتها الشخصية والتي ما تنفك تطفومن جديد في حياتها لتخلق نشازا متواصلا وخللا عصيّا يصعب معه التعامل مع شواغل المرأة الناضجة التي صارت، ومن بداية هذا القسم:

“تنام فيّ منذ سنوات ابنة الخامسة عشر. يجب أن أفلتها وأفيقها من سباتها العميق. لم يعد يناسبها ثوب الثلاثين وعليها أن تغادر قفص المرأة البالغة. سأحزن لوغادرتني، من السهل أن أكون حزينة. الحزن سلاحي الأكثر بدائيّة.”

تزخر الرواية كذلك بعدد من التقنيات الأخرى التي لجأ لها الكاتب ، ونرى أنّه وفّق في اختيارها، إذ لم يكن وجودها مسقطا على العمل بطريقة متكلّفة أومن باب استعراض القوّة، وإنما تم تطويعها لخدمة مضمون الرواية. ومن هذه التقنيات نذكر عمليّة القطع القسري للقصّ التي تتكرّر في أكثر من موضع في الكتاب، بالإضافة إلى تضمين الرؤى وأحلام اليقظة التي لعبت بدورها دورا كبيرا في سبر أغوار العالم السفلي للشخوص، ومصادر قلقها ومخاوفها.

اللّغة:

استعان البرنوصي في هذا العمل بلغة بسيطة وعبارات منتقاة بعناية وجمل قصيرة تذهب مباشرة إلى المعنى المراد لها، وحتّى في أكثر المواضع شعريّة وتكثيفا في الرواية، نجد هذه اللغة البسيطة والرّصينة قادرة عن جدارة على التعبير بشكل مثالي على سيل الاعترافات ومشاعر التي يبوح بها أي من الشخصيتين.

في الحوار، اتسمت اللغة المستعملة بالتنوّع الحذر، وذلك من خلال العمل على لغة وسطى بين الفصحى والدارجة. ويعتبر هذا النهج خيارا ليس بالسّهل باعتبار قلّة قليلة من الروائيين التونسيين قد نجحوا في هذه المعادلة، على عكس الرواية المصرية مثلا التي أصبح فيها ذلك التقليد متأصّلا بدئا من طه حسين والعقّاد وبقيّة المؤسسين مرورا بادوارد الخراط ومعاصريه وحتى اليوم.

في هذه الرواية نجد كذلك استعمالا مكثفا للعبارات الإنجليزية المعرّبة من قبيل “ريموت كونترول، كليشيه، فانتازم، كرة البايزبول…” وهومنحى يعتبر جديدا بدأنا نلاحظه عند جبل الروائيين التونسيين الشبان الذين يميلون إلى الثقافة والحضارة الانجلوسكسونية ويسعون بذلك إلى التخلّص من عقودٍ من التأثر والتبعية للثقافة الفرنكوفونية.

وعلى العموم فإن مهرجان اللغة هذا في رواية مأزق تشايكوفسكي قد جاء ليعبّر عن ذلك الخليط المجتمعي الهجين،والنسق المجنون للأحداث في البلاد والعاصمة بشكل خاص، لذلك كانت اللغة تارة نخبويّة راقية، وتارة هابطة وسوقية إلى حد البذاءة أحيانا.

لكن أين تشايكوفسكي ؟
“وقفت في ذهول، حاملا هاتفي. عاودت قراءة الرسالة مرّات. ضاق جسدي بي. منعت خروج صرخة من أسفل حنجرتي رغم أنها كانت حاجتي الوحيدة للتنفيس عن شعور اعتراني. كان الأمر خليطا من الغضب والحقد والخوف والشفقة والحنان الأبوي، على أيّ زرّ ضغطت يا فاطمة ؟”

هكذا ينهي الكاتب على لسان بطله مروان الرواية. أمّا نحن فنجد أنفسنا مدفوعين لطرح سؤال أكثر إلحاحا بعد انتهائنا من القراءة: أين تشايكوفسكي من كل هذا؟

على العكس من الأمثلة التي ذكرناها في مقدمتنا، فإن هذه الرواية لا تحتوي على أي إشارة لحياة المؤلف الروسي بيوتر تشايكوفسكي، وليس لأثره الموسيقي الضخم أي حضور مباشر في الأحداث، باستثناء القسم المعنون “بحيرة البجع” وهي إحدى أشهر معزوفات الباليه التي كتبها المؤلف الكبير، ومواظبة البطل على الاستماع لها.

يحرّضنا هذا النوع من الروايات على خلق علاقة تفاعليّة إيجابية مع الأدب، بدلا من العلاقة السلبية السائدة التي لا يتعدى فيها دور القارئ كونه متلقّيا، وذلك من خلال جعله، ما أن ينهي القراءة، يسعى لربط الخيوط ببعضها وفك شفرات العمل الذي أمامه.

تكمن رمزية تشايكوفسكي في هذا العمل في رحلة القطار التي تبدأ بها الرواية وتنتهي بنهايتها في محطة المنستير أين يفترض بالبطل أن يلتقي بصديقه/عشيقه، حيث يأخذنا ذلك إلى سنة 1893 والظروف الغامضة لوفاة تشايكوفسكي الذي استقل القطار إلى مدينة سان بترسبورغ ولم يعد من هناك، حيث تم الترويج أن وفاته كانت بسبب الكوليرا، بينما يميل أغلب المؤرخين إلى احتمال إجبار القيصر له على الأقدام على الانتحار بسبب مثليته الجنسية.

هو قطار استقله تشايكوفسكي لم يأخذه سوى إلى المجهول والعدم، وهو ما لم يختلف عنه مروان كثيرا، إذ ما كاد ينزل في المحطة التي كان يضنها محطة خلاصه النهائي من حياة أرغم نفسه طويلا على التأقلم اليائس داخلها، وما لبثت رائحة الحرّية تدغدغ أنفه لوهلة، حتّى أتت رسالة فاطمة لتهبط عليه كالصّاعقة وتدخله في تيه أشد مما كان عليه، ربّما كان يفضّل عليها الانتحار أوالموت بالكوليرا كما حصل مع موسيقاره المفضل.

الرواية نت

Viewing all 1074 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>